السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مما ينبغي أن يعلم قبل الحديث عن الزهد: أن باب الزهد من أنفع الأبواب لمن تدبره فإن الدنيا دار قلة وزوال ومنزل نقلة وارتحال، ومحل نائبة وامتحان ومتاع غرور وافتتان، فلا تيأس على ما فات منها ولا تفرح على ما وجد منها ولا تجزع على ولد أو نفس تموت ولا تحزن على أمر يفوت...
نماذج عملية من إمام الزاهدين:
<<<<<<<<<<<<<<<<<
فعن النعمان بن بشير- رضي الله عنه- قال: " ألستم في طعام وشراب ما شئتم ؟ لقد رأيت نبيكم صلى الله عليه وسلم وما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه"((32))، والدقل هو التمر الرديء.
وعن عائشة-رضي الله عنها- قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر من شعير في رف لي فأكلت منه حتى طال علي فكلته ففني"(33).
وعن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت لعروة: "ابن أختي إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله - صلى الله عليه وسلم- نار، فقلت يا خالة ما كان يعيشكم ؟ قالت: الأسودان ـ التمر والماء ـ إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار كانت لهم منائح وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانهم فيسقينا"(34).
ففي هذا الحديث زهد النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والصبر على التقلل وأخذ البلغة من العيش وإيثار الآخرة على الدنيا(35).
وعن عمرو بن الحارث: ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخي جويرية بنت الحارث قال:" ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته درهما ولا دينارا ولا عبدا ولا أمة ولا شيئا إلا بغلته البيضاء وسلاحه وأرضا جعلها صدقة." (36).
فما أجمل هذه الصور من إمام الزاهدين وخير الخلق محمد صلى الله عليه وسلم الذي لو أراد أن تكون جبال أحد ذهباً لكان ذلك، لكنه مات ولم يترك ديناراً ولا درهماً.
من وصايا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم:
<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<
فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على التقلل من الدنيا والزهد فيها، وعدم التنافس فيها، وأن من أسباب المحبة الزهد فيها فعن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال يا رسول الله دلني على عمل إذا أنا عملته أحبني الله وأحبني الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبوك"(37).
فقد أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم السائل إلى تركها بالزهد فيها ووعد على ذلك حب الله تعالى، وأرشده إلى الزهد فيما في أيدي الناس إن أراد محبة الناس له وترك حب الدنيا فإنه ليس في أيدي الناس شيء يتباغضون عليه ويتنافسون فيه إلا الدنيا(38).
وهذا الحديث عده أبو داود السختياني –رحمه الله- من الأحاديث التي عليها مدار الإسلام(39).
وفي هذا الحديث يقول الإمام الغزالي-رحمه الله-: فجعل الزهد سببا للمحبة فمن أحبه الله تعالى فهو في أعلى الدرجات فينبغي أن يكون الزهد في الدنيا من أفضل المقامات ومفهومه أيضا أن من محب الدنيا متعرض لبغض الله تعالى(40).
والحديث عن زاهد ووصايا سيد الزاهدين محمد صلى الله عليه وسلم يطول فيها المقام والمقصود التمثيل لا الحصر والاستقصاء.
أقسام الزهد وحقيقته:
<<<<<<<<<<<<
ويقسم أهل العلم الزهد إلى أقسام كثيرة يرجع في كثير منها إلى الموضوع الذي يرغب فيه الزهد فمن أقسام الزهد.
1- زهد في الحرام: وهذا الزهد فرض عين، وهو زهد العوام كما سبق وذكر عن الإمام أحمد في أول البحث.
2- زهد في الشبهات: وهو بحسب مراتب الشبهة فان قويت التحقت بالواجب، وإن ضعفت كان مستحبا، وهو زهد السلامة كما سيأتي عن إبراهيم بن ادهم.
3- زهد الفضول: وهو الزهد في ترك الفضول من الحلال، وهو زهد الخواص.
4- وزهد فيما لا يعنى من الكلام والنظر والسؤال واللقاء وغيره.
5- وزهد في الناس وزهد في النفس بحيث تهون عليه نفسه في الله.
6- والزهد الجامع لهذا كله هو الزهد فيما سوى الله وفى كل ما شغلك عنه، وهو زهد العارفين(41).
يقول الإمام إبراهيم بن أدهم الزهد ثلاثة أصناف فزهد فرض، وزهد فضل، وزهد سلامة
قال فزهد الفرض الزهد في الحرام، والزهد الفضل الزهد في الحلال، والزهد السلامة الزهد في الشبهات(42).
وحقيقة الزهد كما يقول الإمام الغزالي-رحمه الله-: هي عبارة عن انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه فكل من عدل عن شيء إلى غيره بمعاوضة وبيع وغيره فإنما عدل عنه لرغبته عنه- يسمى زاهد-، وإنما عدل إلى غيره لرغبته في غيره - يسمى رغبة وحبا-... وشرط المرغوب عنه أن يكون هو أيضا مرغوبا فيه بوجه من الوجوه فمن رغب عما ليس مطلوبا في نفسه لا يسمى زاهدا إذ تارك الحجر والتراب وما أشبهه لا يسمى زاهدا وإنما يسمى زاهدا من ترك الدراهم والدنانير لأن التراب والحجر ليسا في مظنة الرغبة، وشرط المرغوب فيه أن يكون عنده خيرا من المرغوب عنه فالبائع لا يقدم على البيع إلا والمشتري عنده خير من المبيع فيكون حاله بالإضافة إلى المبيع زهدا فيه(43).
فالزهد الحقيقي هو الزهد عن الدنيا عندما تنبسط لك، وتفتح لك أبوابها فالزاهد الحقيقي هو من أمثال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- جاءته الدنيا منقادة حتى صارت في يده فأعرض عنها، لذلك يقول مالك بن دينار: « يقولون عني: زاهد، وإنما الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي أتته الدنيا فتركها»(44).
فمتى يكون الإنسان من الزاهدين
’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’
يجيب عن هذا السؤال الإمام العلامة ابن القيم -رحمه الله-بقوله: لا يستحق العبد اسم الزهد حتى يزهد فيها وهي المال والصور والرياسة والناس والنفس وكل ما دون الله، ولا يعني هذا رفض الدنيا، ورفض ما فيها من مال وملك ورياسة فقد كان سليمان وداود عليهما السلام من أزهد أهل زمانهما ولهما من المال والملك والنساء ما لهما، وكان نبينا من أزهد البشر على الإطلاق وله تسع نسوة، وكان علي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف والزبير وعثمان رضي الله عنهم من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال، وكان الحسن بن علي رضي الله عنه من الزهاد مع أنه كان من أكثر الأمة محبة للنساء ونكاحا لهن وأغناهم وهكذا عبدالله بن المبارك وغيره من الأئمة الزهاد(45).
من كلام السلف في الزهد:
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
ومن أقوال السلف -رحمهم الله تعالى- في الزهد وبيان حقيقة الدنيا نذكر نماذج فهي من الزاد الذي يتزود به السائر في هذه الحياة الدنيا، وهي مصابيح يستنير بها الإنسان
يقول سيدنا عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- الزهد في الدنيا راحة القلب والجسد(46).
وقال علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: من زهد في الدنيا هانت عليه المصائب ومن ارتقب الموت سارع في الخيرات(47).
وقال أبو الدرداء- رضي الله عنه-: لئن حلفتم لي على رجل أنه أزهدكم لأحلفن لكم أنه خيركم(48).
ويقول ابن مسعود -رضي الله عنه- ركعتين من زاهد قلبه خير له وأحب إلى الله من عبادة المتعبدين المجتهدين إلى آخر الدهر أبدا سرمدا(49).
ويقول-رضي الله عنه- لأصحابه أنتم أكثر صلاة وصوما وجهادا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهم كانوا خيرا منكم قالوا كيف ذلك؟ قال كانوا أزهد منكم في الدنيا، وأرغب منكم في الآخرة(50).
وقال إبراهيم ابن أدهم- رحمه الله- قد حجبت قلوبنا بثلاثة أغطية فلن يكشف للعبد اليقين حتى ترفع هذه الحجب الفرح بالموجود والحزن على المفقود والسرور بالمدح فإذا فرحت بالموجود فأنت حريص وإذا حزنت على المفقود فأنت ساخط والساخط معذب وإذا سررت بالمدح فأنت معجب والعجب يحبط العمل(51).
وقال الحسن البصري- رحمه الله-: والذي نفسي بيده لقد أدركت أقواما كانت الدنيا عليهم أهون عليهم من التراب الذي تمشون عليه(52).
وقال رجل لسفيان: أشتهى أن أرى عالما زاهدا؟ فقال: ويحك تلك ضالة لا توجد.
وقال وهب بن منبه: إن للجنة ثمانية أبواب فإذا صار أهل الجنة إليها جعل البوابون يقولون وعزة ربنا لا يدخلها أحد قبل الزاهدين في الدنيا العاشقين للجنة.
وقال بلال بن سعد: كفى به ذنبا أن الله تعالى يزهدنا في الدنيا ونحن نرغب فيها.
وقالت امرأة أبي حازم لأبي حازم هذا الشتاء قد هجم علينا ولا بد لنا من الطعام والثياب والحطب فقال لها أبو حازم: من هذا كله بد ولكن لا بد لنا من الموت ثم البعث ثم الوقوف بين يدي الله تعالى ثم الجنة أو النار(53).والكلام في هذا الباب يطول جداً وفيما أشرنا إليه كفاية إن شاء الله تعالى.
أمثلة في الزهد:
’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’
وهذا بحر لا ساحل له والأمثلة فيه كثيرة لا يسع المقام لها وقد ذكرنا قريباً نماذج من زهد سيد الزاهدين محمد صلى الله عليه وسلم، ونذكر هنا بعض أمثلة الزهد من السلف الصالح مبتدئين الحديث عن الخليفة الراشد أبي بكر الصديق –رضي الله عنه- فعن رافع بن أبي رافع الطائي قال رافقت أبا بكر في غزوة ذات السلاسل وعليه كساء له فدكى يخله عليه إذا ركب ونلبسه أنا وهو إذا نزلنا(54).
وعن عبد الله اليمني مولى الزبير بن العوام قال لما احتضر أبو بكر رضي الله عنه تمثلت عائشة رضي الله عنها بهذا البيت ... اعاذل ما يغنى الحذار عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر ..., فقال أبو بكر رضي الله عنه ليس كذلك يا بنية ولكن قولي: ﴿وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾[ق:19] فقال انظروا ثوبي هذين فاغسلوها ثم كفنوني فيهما فان الحي أحوج إلى الجديد من الميت(55).
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت والله ما ترك أبو بكر دينارا ولا درهما(56).
وكان لأبي بكر -رضي الله عنه- غلام فكان إذا جاء لغلته لم يأكل من غلته حتى يسأله فإن كان شيئا مما يحب أكل، وإن كان شيئا يكره لم يأكل قال ننسى ليلة فأكل ولم يسأله ثم سأله فاخبره أنه من شيء كرهه فأدخل يده فتقيأ(57).
وهذا الحسن يحدثنا عن عثمان – رضي الله عنه- قال رأيت عثمان نائما في المسجد في ملحفة ليس حوله أحد وهو أمير المؤمنين(58).
وعن علي –رضي الله عنه- قال إن أخوف ما أخاف عليكم اثنتين طول الأمل وإتباع الهوى فأما طول الأمل فينسى الآخرة، وأما إتباع الهوى فيصد عن الحق الأوان الدنيا قد ولت مدبرة والآخرة مقبله ولكل واحد منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا(59).
وكان عطاء سلمان – رضي الله عنه- خمسة آلاف درهم وكان أميراً على زهاء ثلاثين ألفا من المسلمين وكان يخطب الناس في عباءة يفترش بعضها ويلبس بعضها فإذا خرج عطاؤه أمضاه ويأكل من سفيف يديه(60).
وبعث حبيب بن أبي سلمة إلى أبي ذر- رضي الله عنه- وهو أمير الشام بثلاثمائة دينار قال استعن بها على حاجتك فقال أبو ذر -رحمه الله- أرجع بها إليه أما وجد أحدا اغربا لله منا ما لنا إلا ظل نتوارى به، وثلة من غنم تروح علينا، ومولاة لنا تصدقت علينا بخدمتها ثم أنا أتخوف الفضل(61).
وروي أن محمد بن سليمان الهاشمي كان يملك من غلة الدنيا ثمانين ألف درهم في كل يوم فكتب إلى أهل البصرة وعلمائها في امرأة يتزوجها فأجمعوا كلهم على رابعة العدوية رحمها الله تعالى فكتب إليها بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإن الله تعالى قد ملكني من غلة الدنيا ثمانين ألف درهم في كل يوم وليس تمضي الأيام والليالي حتى أتمها مائة ألف وأنا أصير لك مثلها ومثلها فأجيبيني فكتبت إليه بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإن الزهد في الدنيا راحة القلب والبدن والرغبة فيها تورث الهم والحزن فإذا أتاك كتابي هذا فهيئ زادك وقدم لمعادك وكن وصي نفسك... (62) .
ونختم الحديث عن الزهد بذكر
ثماره وفوائده التي يجنيها أهل الزهد:
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
1- القناعة, فالزهد يغرس في النفس القناعة.
2- قطع العلائق فالزهد يصرف المسلم عن التعلق بالملذات الفانية، والعمل من أجل النعيم المقيم، فيحب الإنفاق في سبيل الله، وعدم التعلق بالدنيا.
3- كبح جماح النفس إلى الشهوات والملذات.
4- محبة الله – عز وجل- فالزاهد يحبه الله ويقربه إليه.
5- محبة الناس لأن الزاهد لا يزحم الناس في دنياهم فيحبه الناس لذلك.
6- التأسي بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وبصحبه الكرام.
7- الراحة في الدنيا والسعادة في الآخرة(63).
فأنت أيها الإنسان في هذه الدار الفانية ضيف وما في يدك من المتاع والنعيم هو عارية، فالضيف مرتحل والعارية مردود فزهد في الدنيا لأن من أحب دنياه أضر بآخرته،وزهد في الدنيا يحبك الله والناس.
واعلم أنه ليس لك من الدنيا إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت فعن عبد الله بن الشخير-رضي الله عنه- قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾ [التكاثر:1] قال: " يقول ابن آدم مالي مالي" قال: "وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت ؟"(64).
والمعلوم أن الإيمان اعتقاد وقول وعمل، والزهد من أهم أعمال القلوب التي تزيد الإيمان في القلب وتجعل هذا القلب عامراً بالإيمان وعمل الصالحات، والحديث عن الزهد وتعريفه، وعن فضله والأمثلة عليه، وعن إمام الزاهدين ووصياه، والحديث عن حقيقة الزهد وأقسامه، وكلام السلف عنه، وثماره وفوائده التي يجنيها الزاهد في الدنيا والآخرة يطول فيها المقام, والمهم العمل فالكلام كثير والعمل قليل نسأل من المولى- عز وجل- أن يجعلنا من الزاهدين الفائزين في الدنيا والآخرة، وأن يلهمنا الرشد والصواب والتوفيق والسداد أنه على ما يشاء قدير والحمد لله رب العالمين, والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب، وله الحمد والنعمة، وبه التوفيق والعصمة، وصلى الله وسلم على إمام الزاهدين، وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
مما ينبغي أن يعلم قبل الحديث عن الزهد: أن باب الزهد من أنفع الأبواب لمن تدبره فإن الدنيا دار قلة وزوال ومنزل نقلة وارتحال، ومحل نائبة وامتحان ومتاع غرور وافتتان، فلا تيأس على ما فات منها ولا تفرح على ما وجد منها ولا تجزع على ولد أو نفس تموت ولا تحزن على أمر يفوت...
نماذج عملية من إمام الزاهدين:
<<<<<<<<<<<<<<<<<
فعن النعمان بن بشير- رضي الله عنه- قال: " ألستم في طعام وشراب ما شئتم ؟ لقد رأيت نبيكم صلى الله عليه وسلم وما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه"((32))، والدقل هو التمر الرديء.
وعن عائشة-رضي الله عنها- قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر من شعير في رف لي فأكلت منه حتى طال علي فكلته ففني"(33).
وعن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت لعروة: "ابن أختي إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله - صلى الله عليه وسلم- نار، فقلت يا خالة ما كان يعيشكم ؟ قالت: الأسودان ـ التمر والماء ـ إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار كانت لهم منائح وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانهم فيسقينا"(34).
ففي هذا الحديث زهد النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والصبر على التقلل وأخذ البلغة من العيش وإيثار الآخرة على الدنيا(35).
وعن عمرو بن الحارث: ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخي جويرية بنت الحارث قال:" ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته درهما ولا دينارا ولا عبدا ولا أمة ولا شيئا إلا بغلته البيضاء وسلاحه وأرضا جعلها صدقة." (36).
فما أجمل هذه الصور من إمام الزاهدين وخير الخلق محمد صلى الله عليه وسلم الذي لو أراد أن تكون جبال أحد ذهباً لكان ذلك، لكنه مات ولم يترك ديناراً ولا درهماً.
من وصايا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم:
<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<
فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على التقلل من الدنيا والزهد فيها، وعدم التنافس فيها، وأن من أسباب المحبة الزهد فيها فعن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال يا رسول الله دلني على عمل إذا أنا عملته أحبني الله وأحبني الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبوك"(37).
فقد أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم السائل إلى تركها بالزهد فيها ووعد على ذلك حب الله تعالى، وأرشده إلى الزهد فيما في أيدي الناس إن أراد محبة الناس له وترك حب الدنيا فإنه ليس في أيدي الناس شيء يتباغضون عليه ويتنافسون فيه إلا الدنيا(38).
وهذا الحديث عده أبو داود السختياني –رحمه الله- من الأحاديث التي عليها مدار الإسلام(39).
وفي هذا الحديث يقول الإمام الغزالي-رحمه الله-: فجعل الزهد سببا للمحبة فمن أحبه الله تعالى فهو في أعلى الدرجات فينبغي أن يكون الزهد في الدنيا من أفضل المقامات ومفهومه أيضا أن من محب الدنيا متعرض لبغض الله تعالى(40).
والحديث عن زاهد ووصايا سيد الزاهدين محمد صلى الله عليه وسلم يطول فيها المقام والمقصود التمثيل لا الحصر والاستقصاء.
أقسام الزهد وحقيقته:
<<<<<<<<<<<<
ويقسم أهل العلم الزهد إلى أقسام كثيرة يرجع في كثير منها إلى الموضوع الذي يرغب فيه الزهد فمن أقسام الزهد.
1- زهد في الحرام: وهذا الزهد فرض عين، وهو زهد العوام كما سبق وذكر عن الإمام أحمد في أول البحث.
2- زهد في الشبهات: وهو بحسب مراتب الشبهة فان قويت التحقت بالواجب، وإن ضعفت كان مستحبا، وهو زهد السلامة كما سيأتي عن إبراهيم بن ادهم.
3- زهد الفضول: وهو الزهد في ترك الفضول من الحلال، وهو زهد الخواص.
4- وزهد فيما لا يعنى من الكلام والنظر والسؤال واللقاء وغيره.
5- وزهد في الناس وزهد في النفس بحيث تهون عليه نفسه في الله.
6- والزهد الجامع لهذا كله هو الزهد فيما سوى الله وفى كل ما شغلك عنه، وهو زهد العارفين(41).
يقول الإمام إبراهيم بن أدهم الزهد ثلاثة أصناف فزهد فرض، وزهد فضل، وزهد سلامة
قال فزهد الفرض الزهد في الحرام، والزهد الفضل الزهد في الحلال، والزهد السلامة الزهد في الشبهات(42).
وحقيقة الزهد كما يقول الإمام الغزالي-رحمه الله-: هي عبارة عن انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه فكل من عدل عن شيء إلى غيره بمعاوضة وبيع وغيره فإنما عدل عنه لرغبته عنه- يسمى زاهد-، وإنما عدل إلى غيره لرغبته في غيره - يسمى رغبة وحبا-... وشرط المرغوب عنه أن يكون هو أيضا مرغوبا فيه بوجه من الوجوه فمن رغب عما ليس مطلوبا في نفسه لا يسمى زاهدا إذ تارك الحجر والتراب وما أشبهه لا يسمى زاهدا وإنما يسمى زاهدا من ترك الدراهم والدنانير لأن التراب والحجر ليسا في مظنة الرغبة، وشرط المرغوب فيه أن يكون عنده خيرا من المرغوب عنه فالبائع لا يقدم على البيع إلا والمشتري عنده خير من المبيع فيكون حاله بالإضافة إلى المبيع زهدا فيه(43).
فالزهد الحقيقي هو الزهد عن الدنيا عندما تنبسط لك، وتفتح لك أبوابها فالزاهد الحقيقي هو من أمثال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- جاءته الدنيا منقادة حتى صارت في يده فأعرض عنها، لذلك يقول مالك بن دينار: « يقولون عني: زاهد، وإنما الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي أتته الدنيا فتركها»(44).
فمتى يكون الإنسان من الزاهدين
’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’
يجيب عن هذا السؤال الإمام العلامة ابن القيم -رحمه الله-بقوله: لا يستحق العبد اسم الزهد حتى يزهد فيها وهي المال والصور والرياسة والناس والنفس وكل ما دون الله، ولا يعني هذا رفض الدنيا، ورفض ما فيها من مال وملك ورياسة فقد كان سليمان وداود عليهما السلام من أزهد أهل زمانهما ولهما من المال والملك والنساء ما لهما، وكان نبينا من أزهد البشر على الإطلاق وله تسع نسوة، وكان علي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف والزبير وعثمان رضي الله عنهم من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال، وكان الحسن بن علي رضي الله عنه من الزهاد مع أنه كان من أكثر الأمة محبة للنساء ونكاحا لهن وأغناهم وهكذا عبدالله بن المبارك وغيره من الأئمة الزهاد(45).
من كلام السلف في الزهد:
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
ومن أقوال السلف -رحمهم الله تعالى- في الزهد وبيان حقيقة الدنيا نذكر نماذج فهي من الزاد الذي يتزود به السائر في هذه الحياة الدنيا، وهي مصابيح يستنير بها الإنسان
يقول سيدنا عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- الزهد في الدنيا راحة القلب والجسد(46).
وقال علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: من زهد في الدنيا هانت عليه المصائب ومن ارتقب الموت سارع في الخيرات(47).
وقال أبو الدرداء- رضي الله عنه-: لئن حلفتم لي على رجل أنه أزهدكم لأحلفن لكم أنه خيركم(48).
ويقول ابن مسعود -رضي الله عنه- ركعتين من زاهد قلبه خير له وأحب إلى الله من عبادة المتعبدين المجتهدين إلى آخر الدهر أبدا سرمدا(49).
ويقول-رضي الله عنه- لأصحابه أنتم أكثر صلاة وصوما وجهادا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهم كانوا خيرا منكم قالوا كيف ذلك؟ قال كانوا أزهد منكم في الدنيا، وأرغب منكم في الآخرة(50).
وقال إبراهيم ابن أدهم- رحمه الله- قد حجبت قلوبنا بثلاثة أغطية فلن يكشف للعبد اليقين حتى ترفع هذه الحجب الفرح بالموجود والحزن على المفقود والسرور بالمدح فإذا فرحت بالموجود فأنت حريص وإذا حزنت على المفقود فأنت ساخط والساخط معذب وإذا سررت بالمدح فأنت معجب والعجب يحبط العمل(51).
وقال الحسن البصري- رحمه الله-: والذي نفسي بيده لقد أدركت أقواما كانت الدنيا عليهم أهون عليهم من التراب الذي تمشون عليه(52).
وقال رجل لسفيان: أشتهى أن أرى عالما زاهدا؟ فقال: ويحك تلك ضالة لا توجد.
وقال وهب بن منبه: إن للجنة ثمانية أبواب فإذا صار أهل الجنة إليها جعل البوابون يقولون وعزة ربنا لا يدخلها أحد قبل الزاهدين في الدنيا العاشقين للجنة.
وقال بلال بن سعد: كفى به ذنبا أن الله تعالى يزهدنا في الدنيا ونحن نرغب فيها.
وقالت امرأة أبي حازم لأبي حازم هذا الشتاء قد هجم علينا ولا بد لنا من الطعام والثياب والحطب فقال لها أبو حازم: من هذا كله بد ولكن لا بد لنا من الموت ثم البعث ثم الوقوف بين يدي الله تعالى ثم الجنة أو النار(53).والكلام في هذا الباب يطول جداً وفيما أشرنا إليه كفاية إن شاء الله تعالى.
أمثلة في الزهد:
’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’
وهذا بحر لا ساحل له والأمثلة فيه كثيرة لا يسع المقام لها وقد ذكرنا قريباً نماذج من زهد سيد الزاهدين محمد صلى الله عليه وسلم، ونذكر هنا بعض أمثلة الزهد من السلف الصالح مبتدئين الحديث عن الخليفة الراشد أبي بكر الصديق –رضي الله عنه- فعن رافع بن أبي رافع الطائي قال رافقت أبا بكر في غزوة ذات السلاسل وعليه كساء له فدكى يخله عليه إذا ركب ونلبسه أنا وهو إذا نزلنا(54).
وعن عبد الله اليمني مولى الزبير بن العوام قال لما احتضر أبو بكر رضي الله عنه تمثلت عائشة رضي الله عنها بهذا البيت ... اعاذل ما يغنى الحذار عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر ..., فقال أبو بكر رضي الله عنه ليس كذلك يا بنية ولكن قولي: ﴿وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾[ق:19] فقال انظروا ثوبي هذين فاغسلوها ثم كفنوني فيهما فان الحي أحوج إلى الجديد من الميت(55).
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت والله ما ترك أبو بكر دينارا ولا درهما(56).
وكان لأبي بكر -رضي الله عنه- غلام فكان إذا جاء لغلته لم يأكل من غلته حتى يسأله فإن كان شيئا مما يحب أكل، وإن كان شيئا يكره لم يأكل قال ننسى ليلة فأكل ولم يسأله ثم سأله فاخبره أنه من شيء كرهه فأدخل يده فتقيأ(57).
وهذا الحسن يحدثنا عن عثمان – رضي الله عنه- قال رأيت عثمان نائما في المسجد في ملحفة ليس حوله أحد وهو أمير المؤمنين(58).
وعن علي –رضي الله عنه- قال إن أخوف ما أخاف عليكم اثنتين طول الأمل وإتباع الهوى فأما طول الأمل فينسى الآخرة، وأما إتباع الهوى فيصد عن الحق الأوان الدنيا قد ولت مدبرة والآخرة مقبله ولكل واحد منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا(59).
وكان عطاء سلمان – رضي الله عنه- خمسة آلاف درهم وكان أميراً على زهاء ثلاثين ألفا من المسلمين وكان يخطب الناس في عباءة يفترش بعضها ويلبس بعضها فإذا خرج عطاؤه أمضاه ويأكل من سفيف يديه(60).
وبعث حبيب بن أبي سلمة إلى أبي ذر- رضي الله عنه- وهو أمير الشام بثلاثمائة دينار قال استعن بها على حاجتك فقال أبو ذر -رحمه الله- أرجع بها إليه أما وجد أحدا اغربا لله منا ما لنا إلا ظل نتوارى به، وثلة من غنم تروح علينا، ومولاة لنا تصدقت علينا بخدمتها ثم أنا أتخوف الفضل(61).
وروي أن محمد بن سليمان الهاشمي كان يملك من غلة الدنيا ثمانين ألف درهم في كل يوم فكتب إلى أهل البصرة وعلمائها في امرأة يتزوجها فأجمعوا كلهم على رابعة العدوية رحمها الله تعالى فكتب إليها بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإن الله تعالى قد ملكني من غلة الدنيا ثمانين ألف درهم في كل يوم وليس تمضي الأيام والليالي حتى أتمها مائة ألف وأنا أصير لك مثلها ومثلها فأجيبيني فكتبت إليه بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإن الزهد في الدنيا راحة القلب والبدن والرغبة فيها تورث الهم والحزن فإذا أتاك كتابي هذا فهيئ زادك وقدم لمعادك وكن وصي نفسك... (62) .
ونختم الحديث عن الزهد بذكر
ثماره وفوائده التي يجنيها أهل الزهد:
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
1- القناعة, فالزهد يغرس في النفس القناعة.
2- قطع العلائق فالزهد يصرف المسلم عن التعلق بالملذات الفانية، والعمل من أجل النعيم المقيم، فيحب الإنفاق في سبيل الله، وعدم التعلق بالدنيا.
3- كبح جماح النفس إلى الشهوات والملذات.
4- محبة الله – عز وجل- فالزاهد يحبه الله ويقربه إليه.
5- محبة الناس لأن الزاهد لا يزحم الناس في دنياهم فيحبه الناس لذلك.
6- التأسي بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وبصحبه الكرام.
7- الراحة في الدنيا والسعادة في الآخرة(63).
فأنت أيها الإنسان في هذه الدار الفانية ضيف وما في يدك من المتاع والنعيم هو عارية، فالضيف مرتحل والعارية مردود فزهد في الدنيا لأن من أحب دنياه أضر بآخرته،وزهد في الدنيا يحبك الله والناس.
واعلم أنه ليس لك من الدنيا إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت فعن عبد الله بن الشخير-رضي الله عنه- قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾ [التكاثر:1] قال: " يقول ابن آدم مالي مالي" قال: "وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت ؟"(64).
والمعلوم أن الإيمان اعتقاد وقول وعمل، والزهد من أهم أعمال القلوب التي تزيد الإيمان في القلب وتجعل هذا القلب عامراً بالإيمان وعمل الصالحات، والحديث عن الزهد وتعريفه، وعن فضله والأمثلة عليه، وعن إمام الزاهدين ووصياه، والحديث عن حقيقة الزهد وأقسامه، وكلام السلف عنه، وثماره وفوائده التي يجنيها الزاهد في الدنيا والآخرة يطول فيها المقام, والمهم العمل فالكلام كثير والعمل قليل نسأل من المولى- عز وجل- أن يجعلنا من الزاهدين الفائزين في الدنيا والآخرة، وأن يلهمنا الرشد والصواب والتوفيق والسداد أنه على ما يشاء قدير والحمد لله رب العالمين, والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب، وله الحمد والنعمة، وبه التوفيق والعصمة، وصلى الله وسلم على إمام الزاهدين، وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تعليق