تويت
أسطورة حملت اسم >> × الأميرة الفلسطينية ذات الهمة ×
..........................السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
.. وعلى طول أكثر من ستو ن سنة لم تتوقف إسرائيل عن محاولة هدم الذاكرة الفلسطينية بنفس الطريقة التي يهدم بها البلدوزر منزلاً ويشرد عائلة..
لكن حقائق التاريخ أقوى من كلام جوبلز وقوة البلدوزر الإسرائيلي، ذلك أن هناك لحظات نادرة وعميقة تبقى عالقة بأعماقنا إلى آخر الزمان لأنها انحدرت إلينا من تجاويف التاريخ وحكمة الجدّات وأنين الشبّابة العريقة في دروب وقرى وجبال فلسطين.
ومن هذه الحكايات سيرة الأميرة الفلسطينية ذات الهمة.. وهي سيرة شعبية صحيحة تداولتها الأجيال منذ القرن الثامن الميلادي حتى يومنا هذا.
فنحن دائماً في حاجة لمعرفة تراثنا الشعبي في فلسطين باعتباره الهوية التي تؤكد ذاتنا في مواجهة نفي الآخر. وهذا التراث يحمل في داخله ذاكرة ثقافية هي ثقافة وذاكرة العامة التي تصوغ وعي التاريخ بذاته، داخل النسق المثيولوجي الذي يمثل الحكايات والرموز والحكمة الشعبية التي لا تبلى.
ولذلك نجد أن الفيلسوف أرسطوطاليس يوصي الإسكندر الأكبر بما معناه: أن عليه قبل أن يدخل أي بلد غازياً أن يصغي لأغانيه ويسمع حكاياته الشعبية حتى يستطيع أن يفهم نفسية الشعوب التي يحاربها ويتمكن من الانتصار عليها.
ولم يقل لنا التاريخ أن الإسكندر المقدوني حاول أن يقتلع ذاكرة الشعوب التي غزاها بالحرب والقتال لأنه كان يعلم أن ذلك أمر مستحيل وغير ممكن ولعل جوبلز النازي قد أدرك هذا أيضاً... فقدم صيغة أكثر تطرفاً وعدوانية تتمثل في إحراق ذاكرة الشعوب والقضاء على أساطيرها.. وهي صيغة تتفق مع نظرة هتلر العنصرية الحاقدة التي لم يكتب لها النجاح.
من هي الأميرة الفلسطينية ذات الهمة؟
تبدأ السيرة من عهد عبد الملك بن مروان الأموي، حيث ذاع صيت مروان بن الهيثم زعيم بني سُلَيم، كما ذاع صيت الحارث الكلابي زعيم قبيلة بني كلاب. وكانت الإمارة على العرب في قبيلة بني سُلَيم.
توفي الحارث الكلابي زعيم بني كلاب، فهربت زوجته الحامل مع عبدها سَلام، خوفاً على حياتها من الأعداء، وما إن خلا بها الطريق حتّى تعرض لها خادمها سلام محاولاً اغتصابها، ثمّ قتلها بعد أن وضعت جنيناً ذكراً وعلقت في رقبته تميمة تبين أصله ونسبه. وصادف ذلك خروج الأمير دارم ـ أحد الأمراء العرب ـ بجولة صيد فصادف في طريقه الجنين بجانب أمه المضرجة بدمائها، فتناوله الأمير دارم وضمه إلى بيته ورباه على الفروسية والقيم العربية وأطلق عليه اسم "جندبة" وحين شب جندبة وعرف حقيقة نسبه إلى قبيلة بني كلاب ترك قبيلة دارم إلى قبيلة بني كلاب لينصرها على منافستها قبيلة بني سُلَيم، ولكن القدر لم يمهله فقد قتل على يد الغطريف ـ أحد المرتزقة المتجولين في الصحراء ـ وسُرق فرسه بعد أن ترك زوجته حاملاً في قبيلة بني كلاب.
ولدت زوجة جندبة ولدها الصحصاح في بيت عمه عطاف، حيث شب على الفروسية وحب ابنة عمه ليلى، إلى أن غادر القبيلة هائماً على وجهه في الصحراء بحثاً عن مهر ابنة عمه، ولكن الصحراء أوصلته إلى قصر الخليفة الأموي في دمشق بعد أن أنقذ ابنته من براثن اللصوص الذين تعرضوا لها في الصحراء في أثناء عودتها من الحج.
في دمشق نُصِّب الصحصاح أميراً على القبائل العربية وعاد إلى قبيلته، بني كلاب، محملاً بالهدايا ومهر ليلى والإمارة، فتزوج حبيبته وضم إليه قبيلة بني كلاب وقبيلة بني سُلَيم، وحين استقر له الأمر في الجزيرة العربية أرسل خلفه الخليفة في دمشق وكلفه والقبائل التابعة له بمرافقة مسلمة بن عبد الملك لمحاصرة القسطنطينية.
رزق الصحصاح ولدين هما؛ ظالم ومظلوم وسميا في السيرة بهذين الاسمين للدلالة على طبيعة العلاقة التي سادت بينهما، إذ نشب بينهما الصراع على إمارة القبيلة، فحكِّم بينهما بأن تكون الإمارة في من تلد له زوجته ذكراً، ثمّ تكون لولده من بعده، وعند وضع زوجتيهما، ولدت زوجة ظالم ذكراً وولدت زوجة مظلوم أنثى سميت "فاطمة بنت مظلوم" وهي الأميرة ذات الهمة التي سميت السيرة باسمها.
خشيت مربية فاطمة على الوليدة الجديدة من تهكم القبيلة وظلم عمها ظالم، فهربت بها في إحدى الغزوات وربتها بعيداً عن قبيلتها على قيم الفروسية والإيمان، إلى أن ذاع صيتها بين القبائل العربية، فكشفت لها مربيتها حقيقة نسبها إلى قبيلة بني كلاب، فما كان من الأميرة إلا الالتحاق بقبيلتها، ولكنها فوجئت ببطش عمها وجبروت ابنه الحارث بن ظالم الذي أراد الزواج منها طمعاً في كسر شوكتها وإذلالها مع أبيها. ولكن فاطمة التي عرفت بالنزوع إلى الحرية، رفضت طلب ابن عمها، وحين ألح في طلبه اشترطت عليه منازلتها، وعندما غلبته في الصراع أمام القبيلة لجأ إلى الخليفة ليعينه عليها، فما كان من الأميرة، إلا أن قبلت بالزواج من ابن عمها واشترطت عليه عدم الدخول عليها في خلوة إلا بموافقتها. لم ينتظر الحارث كثيراً فسرعان ما دبر مؤامرة للتمكُّن من غايته بواسطة خادمتها التي دست لها المخدر في الطعام.
حملت الأميرة ذات الهمة من الحارث فاختفت عن الأنظار كي لا تُظهر ضعفها الأنثوي وهي التي نذرت نفسها للفروسية والجهاد في سبيل الله. وحين حان موعد وضعها ولدت ذكراً أسود سمته عبد الوهاب، ولشدة العداء بينها وبين الحارث وللونه الأسود رفض الحارث الاعتراف به، فخاضت الأميرة معركة طويلة ومتشعبة لإجباره على الاعتراف بولده عبد الوهاب، فحصلت بعد معاناة طويلة عل اعتراف القبائل العربية والخليفة الأموي بنسب ابنها إلى والده الحارث بن ظالم، وعلى إثر ذلك هرب الحارث مع أبيه ظالم وثلة من أفراد قبيلة بني سُلَيم وبعض أفراد قبيلة بني كلاب إلى بلاد الروم.
بذلك انتهت المرحلة التأسيسية في شخصية الأميرة ذات الهمة وانتهت هموم الأميرة الشخصية ليتاح لها التفرغ للهموم الكبيرة المتعلقة بالوطن الكبير، وبخاصة الصراع العربي ـ الرومي، حيث كان الصراع على أشده في منطقة الثغور، بالإضافة إلى وضع الصراع على السلطة في الدولة الإسلامية، وقد كانت الثورة العباسية قد حققت انتصارها على الخلافة الأموية.
وبوضوح الصورة على المستوى الشخصي ومستوى الصراع داخل الدولة الإسلامية تفرغت الأميرة ذات الهمة لمقاومة الروم في منطقة الثغور الجزرية وانتقلت مع قبيلتها وقبيلة بني سُلَيم والقبائل الأخرى المتحالفة معها إلى منطقة الثغور، ومنهم شكلت جيشها القوي المتطوع لملاحقة الروم والتصدي لهجماتهم، مدعومة من جيش الخليفة أحياناً ومنفردة في القتال أحياناً أخرى.
ولكن الأعداء في منطقة الثغور الرومية كانوا يعتمدون على الأعداء في الداخل ولذلك كانت مهمة الأميرة موزعة على جبهتين: داخلية وخارجية، خارجية ممثلة بالروم وداخلية ممثلة بالخونة وبالجواسيس الممثلين في السيرة بشخصية القاضي عقبة السُلَمي.
يمثل عقبة الفساد والنفاق والخيانة والحيلة في الحرب، فقد كان بدسائسه يزرع الفتنة في صفوف المسلمين، وكان يساعده في نجاح مؤامراته منصبه ـ كقاض للمسلمين، ولذلك دلالته ـ وتفقهه وثقافته ومعرفته العميقة بعلوم التنكر والسحر والشعوذة وغيرها.
وكانت الأميرة ذات الهمة تعمل دائماً على كشف مؤامرته وفضحها أمام الخليفة فتخفق في بعض المرات لشدة ذكائه وقوة حيلته أو لتعلق العامة به كقاض للمسلمين. ويساعد الأميرة في التصدي لحيله "أبو محمد البطَّال" الكلابي المتفنن في أساليب الحيل، وقد عبر عن ذلك بقوله (أنا ما صناعتي في الحرب والطعن والضرب وإنما صناعتي في الحيل والخداع في حصن أو قلعة) فكان دور البطَّال فعالاً في الحرب والسلم، إذ كان يتسلل داخل بلاد الروم متخفياً ويمكث بها زمناً يتيح له فرصة التعرف على من يكون عالماً بخطط الحرب، ثمّ يصطنع معه كافة الحيل حتّى يأخذ منه بعض المعلومات، وقد يسعى إلى تضليل الروم حتّى تتم خطة جيشه بنجاح، وقد يتسلل إلى الحصن المحاصَر فيفتحه بالحيلة والذكاء، حين يعجز السيف عن دخوله بالقوة.
إن الحرب في منطقة الثغور لم تُبْعد الأميرة ذات الهمة عن الأحداث الجارية داخل الدولة الإسلامية وبخاصة ما يتعلق منها بالفتن الداخلية أو الصراع على الخلافة، بل إن تلك الأحداث كانت تشغل تفكير الأميرة، لأن تهديد العدو الخارجي كان يعطي للعناصر الفاسدة في الداخل فرصة لحبك المؤامرات وإشعال الفتن، كما أن العدو الداخلي كان يقدم للعدو الخارجي صورة عن الأوضاع الداخلية من أجل استغلالها في الضغط على الدولة الإسلامية وخليفتها.
إن ضعف الخلفاء وعكوفهم على ملذاتهم كانا يحولان دون توحيد الصفوف في الدولة الإسلامية، وكلما ازداد ضعف الخلفاء كثرت حوادث المتمردين الطامعين بتشجيع من عقبة السلمي وغيره من الجواسيس، وكانت الأميرة تقف في وجه مؤامراته دائماً ويساعدها البطَّال الذي اضطر في بعض المواقف إلى خطف الخليفة والقاضي عقبة السلمي لكشف مؤامرة عقبة على المسلمين، ولكن عقبة كان يعود في كل مرة لحبك مؤامرة جديدة تنقذه وتوقع بين الخليفة وجيش الثغور بقيادة الأميرة ذات الهمة.
ومن المؤامرات التي حبكها عقبة "نكبة البرامكة" وذلك لأنه لمس دعمهم ـ أي البرامكة ـ للأميرة وجيشها.. فقد قال عقبة للخليفة الرشيد ذات يوم "اعلم يا مولاي أن البرامكة جملتهم أربعة آلاف وقد بايعوا الظافر بن الرضا بخراسان، وعولوا أن يسلموا إليه قصرك وأن يزوجوه بأهلك، لأنه ذكر إلى جعفر أن عنده من السيدة زبيدة هوى، وقد أجابه إلى ذلك... وجعفر ضامر على أن يقلعك من الخلافة، وقد نوى لمولانا كل آفة "وكان عقبة قد دسَّ لجعفر البرمكي خطاباً يكشف عن هذه المؤامرة المزعومة، واستطاع الرشيد أن يطلَّع على الخطاب، ولم يكن لديه أدنى شك في حقيقة هذه المؤامرة، وقرر في الحال أن ينزل النكبة بالبرامكة واستطاع البطَّال أن يكشف للرشيد الرسالة المدسوسة، ولكن من الذي دسها لجعفر؟ أهو عقبة أم غيره؟ لم يستطع الرشيد أن يقطع الشك باليقين.
ثمّ توفي الرشيد وترك حكمه لابنه الأمين وللمأمون من بعده. وحين دب الخلاف بين الأخوين وقفت الأميرة ذات الهمة إلى جانب الأمين سعياً منها للوقوف مع الخليفة الشرعي وفق وصية هارون الرشيد، وتحقيقاً للتلاحم الداخلي الذي يدعم جبهتها مع العدو الرومي؛ فقد كان طموحها في القضاء على الروم في منطقة الثغور لا يحده خليفة أو خائن أو منافق أو اختلاف في الرأي، فقد حدث أن طلب ملك الروم من الأميرة ذات الهمة مساعدته بالقضاء على ثائر ضده يدعى "كوشا نوش" مقابل تسليمها مدينة عمورية، ففرحت الأميرة بذلك ولكن الخليفة المأمون عارضها، قائلاً إن عليها أن تنضم إلى صفوف الثائر الرومي للقضاء على ملك الروم، فرفضت الأميرة رأي الخليفة ممّا دفعه إلى إنذارها، فردت عليه الأميرة بقولها (دعنا في مَلَطية في وجوه الكفرة لا لك ولا علينا، ولا تلحَ علينا فيخرج الأمر من يدك ويدنا) ونفذّت الأميرة خطتها واستلمت مدينة عمورية، ثمّ استأنفت غاراتها على بلاد الروم.
في عصر المعتصم بالله أكدت النبوءة النصر النهائي للمسلمين على الروم، كما حددت زمنه، فقد ظهر الرسول الكريم إلى عبد الوهاب في رؤياه، وتبيّن عبد الوهاب حقيقة من خداع المنافقين وعلى رأسهم عقبة قائلاً: يا رسول الله عقبة ضرني، فهل ذلك الوعد الذي وعدتني قد اقترب؟ فقال: أتى أمر الله فلا تستعجلوه، فقال له عبد الوهاب: يا رسول الله خلق الإنسان من عجل، فمتى يكون ذلك؟ فقال: إذا وصلت الروم إلى الإسكندرية وأخذت العلوية، وفتح الله على أيديكم عمورية، وظهر "شو مدروس" المحتال.
وأخذت الأحداث تتلاحق تدريجياً، من ضرب القسطنطينية إلى فتح عمورية ثانية على يد الخليفة المعتصم، ثمّ صُلب عقبة على باب الذهب، حيث تمّ النصر للمسلمين على العدوَّين: الداخلي والخارجي وتوحد الوطن، ورفعت راية الحق والعدل.
تقول سيرة الأدب الشعبي أن الاسم الحقيقي لذات الهمة هو فاطمة ابنة مظلوم بن الصحاح بن الحارث الكلابي. ولدت فاطمة وترعرعت في أحضان قبيلة فلسطينية في مطلع الإسلام وانتشاره وحروبه في مواجهة الدولة البيزنطية الرومانية حسب موسوعة الفولكلور والأساطير الشعبية لشوقي عبد الحكيم.
فتحت "ذات الهمة" عينيها على اعتداءات قبائل طيء المتكررة على قبيلتها وانخرطت في الدفاع عن شرف القبيلة، وأبدت شجاعة نادرة جعلتها تلقب (بذات الهمة) وهي المحاربة الحسناء التي عرفت الحب، وانجذبت إلى ابن عمها الأمير مرزوق فارتبطت بالزواج منه لصفات الشجاعة فيه ودفاعه عن قومه وأنجبت منه ولداً سمته عبد الوهاب.
وتبلغ أحداث سيرة الأميرة الفلسطينية 26 ألف صفحة في مخطوط من القطع المتوسط. ويقول شوقي عبد الحكيم أن النسخة الوحيدة محفوظة في مكتبة برلين.. ولم تصل إليها يد المطبعة.. وهي لهذا فخر لا يبارى بالنسبة للمكتبة المذكورة. وقد تم إنقاذها من الدمار الذي حدث في الحرب العالمية الثانية.
وكما نرى فإن الملحمة الشعبية ذات الهمة هي ملحمة فلسطينية الأصل والمنشأ. وأن انتقلت السيرة بعد ذلك من يافا وحيفا وعكا إلى ساحل سوريا كما دخلت إلى مصر عن طريق غزة حتى أن الكثيرين باتوا يعتقدون أن مصر هي الموطن الأصلي للسيرة بسبب ما لقيته من اهتمام بين الناس البسطاء وانتشارها في النجوع والقرى بواسطة شاعر الربابة الشعبي.
وتعتبر سيرة ذات الهمة وابنها عبد الوهاب من التراث الشعبي الذي لا يعرف مؤلفه . فهي تراث شعبي مهمل بالنسبة للباحثين الفلسطينيين الذين لم يلتفتوا إليه ولم يذكروه في دراساتهم وأبحاثهم عن الفولكلور الفلسطيني، ربما لعدم معرفتهم بأصل السيرة أو لأنها غير متداولة في أوساط العامة في فلسطين.
ولعل الأغاني والأمثال الشعبية والمواويل أكثر شيوعاً عندنا من السير المروية.. ما عدا بعض الحكايات التي لا ترقى إلى تفاصيل السيرة الملحمية المعروفة في بعض أقطار العالم العربي وخصوصاً في مصر.
تدور حكاية الأميرة الفلسطينية "ذات الهمة" في عهد الخلافة الأموية في دمشق.. وتحديداً في عصر عبد الملك بن مروان ثم مروان بن محمد وهو آخر الخلفاء الأمويين الذي لقي مصرعه في أبو صير في مصر الوسطى على يد أبو مسلم الخرساني.
وتمتد أحداث السيرة الشعبية حتى مطلع العصر العباسي.
وقد شهدت هذه الفترات المتعاقبة أحداثاً سياسية على جانب كبير من الخطورة سواء في الداخل أو الخارج. فكان الصراع على السلطة هو الصبغة التي طغت على تفاصيل السيرة التي تشمل أكثر من ألف صفحة تسرد هذا الصراع السياسي بين اليمين التقليدي واليسار الإسلامي الذي كان يحذر من الخطر الداهم المتمثل في الدولة البيزنطية التي كانت استعماراً متقدماً يطمع في السيطرة على ربوع الإسلام والثغور البحرية على الساحل الأفريقي.
ومن الطبيعي أن تنعكس هذه الأمور على العرب في فلسطين وأميرتهم ذات الهمة وابنها عبد الوهاب.
وقد استطاعت هذه الأسرة الفلسطينية أن تدافع عن الخلافة الإسلامية وذلك بسبب موقع فلسطين الساحلي مما جعل الفلسطينيين بمثابة طلائع بحرية في الثغور الممتدة حتى لبنان وسوريا، ومما وفر لهم الفرصة للنجاح في رد الغزوات عن العالم العربي . والسيرة تتحدث عن حرب بني كليب التغلبيين الفلسطينيين ضد الدولة البيزنطية التي تهدد الدولة الإسلامية.
ولا تتعرض موسوعة الفولكلور والأساطير العربية لتفاصيل السيرة الموجودة في مكتبة برلين وغير المنشورة حتى الآن . كما أنه من الصعب الإلمام بسياق التفاصيل التي تستغرق مجلدات عديدة، وتؤرخ لمراحل مختلفة من الحياة العربية في صدر الإسلام . فهذه السيرة – كما ذكرنا- فلسطينية الأصل والمنشأ، وتدل على أن الفلسطينيين موجودون على هذه الأرض ولهم حضارة وأبطال وسير وأنماط حياة عصرية، وهذه بقعة غائبة عن مؤرخي الفولكلور الشعبي والمهتمين بالتراث عامة. إذ لا نكاد نصادف أي ذكر لسيرة ذات الهمة فيما قرأنا من كتب ودراسات لمؤلفين فلسطينيين حيث لم يقتربوا من هذه السيرة بأي كلمة أو إشارة ويعتبرها شوقي عبد الحكيم أكبر سيرة في التاريخ. وتشكل سنداً تاريخياً علمياً يؤكد وجود شعب فلسطيني في مواجهة ادعاءات إسرائيل ومحاولات طمس الهوية. إننا في أشد الحاجة إلى كل سند وبرهان نقدمه للأجيال القادمة كي نؤكد أن تاريخنا يبدأ من فترات ما قبل الميلاد، وهو مستمر حتى الآن. وإننا موجودون هنا ولم نغادر الهوية والوطن لأن جذورنا أعمق من أي ادعاء وتزييف.
فقد قادت ذات الهمة الجيوش العربية ووصلت إلى مالطة والقسطنطينية وأصبحت امبراطورة متوجة لفترة من الزمن.. ولعب ابنها عبد الوهاب دوراً في أحداث الصراعات الداخلية التي انتهت بمذبحة البرامكة ، وكان متحالفاً مع جعفر البرمكي.. وتشمل السيرة الكثير من المعارك والسياسات التي كانت تحتدم داخل الدولة الإسلامية.. وفي كل الحالات تبرز ذات الهمة وابنها عبد الوهاب لتصوغ معه تلك الأحداث، وتؤثر فيها بشكل عميق.. بل وتغير مسارات الصراع سواء مع الدولة البيزنطية أو في مواجهة المؤامرات الداخلية التي كانت في صلب الخلافةتبدأ السيرة من عهد عبد الملك بن مروان الأموي، حيث ذاع صيت مروان بن الهيثم زعيم بني سُلَيم، كما ذاع صيت الحارث الكلابي زعيم قبيلة بني كلاب. وكانت الإمارة على العرب في قبيلة بني سُلَيم.
توفي الحارث الكلابي زعيم بني كلاب، فهربت زوجته الحامل مع عبدها سَلام، خوفاً على حياتها من الأعداء، وما إن خلا بها الطريق حتّى تعرض لها خادمها سلام محاولاً اغتصابها، ثمّ قتلها بعد أن وضعت جنيناً ذكراً وعلقت في رقبته تميمة تبين أصله ونسبه. وصادف ذلك خروج الأمير دارم ـ أحد الأمراء العرب ـ بجولة صيد فصادف في طريقه الجنين بجانب أمه المضرجة بدمائها، فتناوله الأمير دارم وضمه إلى بيته ورباه على الفروسية والقيم العربية وأطلق عليه اسم "جندبة" وحين شب جندبة وعرف حقيقة نسبه إلى قبيلة بني كلاب ترك قبيلة دارم إلى قبيلة بني كلاب لينصرها على منافستها قبيلة بني سُلَيم، ولكن القدر لم يمهله فقد قتل على يد الغطريف ـ أحد المرتزقة المتجولين في الصحراء ـ وسُرق فرسه بعد أن ترك زوجته حاملاً في قبيلة بني كلاب.
ولدت زوجة جندبة ولدها الصحصاح في بيت عمه عطاف، حيث شب على الفروسية وحب ابنة عمه ليلى، إلى أن غادر القبيلة هائماً على وجهه في الصحراء بحثاً عن مهر ابنة عمه، ولكن الصحراء أوصلته إلى قصر الخليفة الأموي في دمشق بعد أن أنقذ ابنته من براثن اللصوص الذين تعرضوا لها في الصحراء في أثناء عودتها من الحج.
في دمشق نُصِّب الصحصاح أميراً على القبائل العربية وعاد إلى قبيلته، بني كلاب، محملاً بالهدايا ومهر ليلى والإمارة، فتزوج حبيبته وضم إليه قبيلة بني كلاب وقبيلة بني سُلَيم، وحين استقر له الأمر في الجزيرة العربية أرسل خلفه الخليفة في دمشق وكلفه والقبائل التابعة له بمرافقة مسلمة بن عبد الملك لمحاصرة القسطنطينية.
رزق الصحصاح ولدين هما؛ ظالم ومظلوم وسميا في السيرة بهذين الاسمين للدلالة على طبيعة العلاقة التي سادت بينهما، إذ نشب بينهما الصراع على إمارة القبيلة، فحكِّم بينهما بأن تكون الإمارة في من تلد له زوجته ذكراً، ثمّ تكون لولده من بعده، وعند وضع زوجتيهما، ولدت زوجة ظالم ذكراً وولدت زوجة مظلوم أنثى سميت "فاطمة بنت مظلوم" وهي الأميرة ذات الهمة التي سميت السيرة باسمها.
خشيت مربية فاطمة على الوليدة الجديدة من تهكم القبيلة وظلم عمها ظالم، فهربت بها في إحدى الغزوات وربتها بعيداً عن قبيلتها على قيم الفروسية والإيمان، إلى أن ذاع صيتها بين القبائل العربية، فكشفت لها مربيتها حقيقة نسبها إلى قبيلة بني كلاب، فما كان من الأميرة إلا الالتحاق بقبيلتها، ولكنها فوجئت ببطش عمها وجبروت ابنه الحارث بن ظالم الذي أراد الزواج منها طمعاً في كسر شوكتها وإذلالها مع أبيها. ولكن فاطمة التي عرفت بالنزوع إلى الحرية، رفضت طلب ابن عمها، وحين ألح في طلبه اشترطت عليه منازلتها، وعندما غلبته في الصراع أمام القبيلة لجأ إلى الخليفة ليعينه عليها، فما كان من الأميرة، إلا أن قبلت بالزواج من ابن عمها واشترطت عليه عدم الدخول عليها في خلوة إلا بموافقتها. لم ينتظر الحارث كثيراً فسرعان ما دبر مؤامرة للتمكُّن من غايته بواسطة خادمتها التي دست لها المخدر في الطعام.
حملت الأميرة ذات الهمة من الحارث فاختفت عن الأنظار كي لا تُظهر ضعفها الأنثوي وهي التي نذرت نفسها للفروسية والجهاد في سبيل الله. وحين حان موعد وضعها ولدت ذكراً أسود سمته عبد الوهاب، ولشدة العداء بينها وبين الحارث وللونه الأسود رفض الحارث الاعتراف به، فخاضت الأميرة معركة طويلة ومتشعبة لإجباره على الاعتراف بولده عبد الوهاب، فحصلت بعد معاناة طويلة عل اعتراف القبائل العربية والخليفة الأموي بنسب ابنها إلى والده الحارث بن ظالم، وعلى إثر ذلك هرب الحارث مع أبيه ظالم وثلة من أفراد قبيلة بني سُلَيم وبعض أفراد قبيلة بني كلاب إلى بلاد الروم.
بذلك انتهت المرحلة التأسيسية في شخصية الأميرة ذات الهمة وانتهت هموم الأميرة الشخصية ليتاح لها التفرغ للهموم الكبيرة المتعلقة بالوطن الكبير، وبخاصة الصراع العربي ـ الرومي، حيث كان الصراع على أشده في منطقة الثغور، بالإضافة إلى وضع الصراع على السلطة في الدولة الإسلامية، وقد كانت الثورة العباسية قد حققت انتصارها على الخلافة الأموية.
وبوضوح الصورة على المستوى الشخصي ومستوى الصراع داخل الدولة الإسلامية تفرغت الأميرة ذات الهمة لمقاومة الروم في منطقة الثغور الجزرية وانتقلت مع قبيلتها وقبيلة بني سُلَيم والقبائل الأخرى المتحالفة معها إلى منطقة الثغور، ومنهم شكلت جيشها القوي المتطوع لملاحقة الروم والتصدي لهجماتهم، مدعومة من جيش الخليفة أحياناً ومنفردة في القتال أحياناً أخرى.
ولكن الأعداء في منطقة الثغور الرومية كانوا يعتمدون على الأعداء في الداخل ولذلك كانت مهمة الأميرة موزعة على جبهتين: داخلية وخارجية، خارجية ممثلة بالروم وداخلية ممثلة بالخونة وبالجواسيس الممثلين في السيرة بشخصية القاضي عقبة السُلَمي.
يمثل عقبة الفساد والنفاق والخيانة والحيلة في الحرب، فقد كان بدسائسه يزرع الفتنة في صفوف المسلمين، وكان يساعده في نجاح مؤامراته منصبه ـ كقاض للمسلمين، ولذلك دلالته ـ وتفقهه وثقافته ومعرفته العميقة بعلوم التنكر والسحر والشعوذة وغيرها.
وكانت الأميرة ذات الهمة تعمل دائماً على كشف مؤامرته وفضحها أمام الخليفة فتخفق في بعض المرات لشدة ذكائه وقوة حيلته أو لتعلق العامة به كقاض للمسلمين. ويساعد الأميرة في التصدي لحيله "أبو محمد البطَّال" الكلابي المتفنن في أساليب الحيل، وقد عبر عن ذلك بقوله (أنا ما صناعتي في الحرب والطعن والضرب وإنما صناعتي في الحيل والخداع في حصن أو قلعة) فكان دور البطَّال فعالاً في الحرب والسلم، إذ كان يتسلل داخل بلاد الروم متخفياً ويمكث بها زمناً يتيح له فرصة التعرف على من يكون عالماً بخطط الحرب، ثمّ يصطنع معه كافة الحيل حتّى يأخذ منه بعض المعلومات، وقد يسعى إلى تضليل الروم حتّى تتم خطة جيشه بنجاح، وقد يتسلل إلى الحصن المحاصَر فيفتحه بالحيلة والذكاء، حين يعجز السيف عن دخوله بالقوة.
إن الحرب في منطقة الثغور لم تُبْعد الأميرة ذات الهمة عن الأحداث الجارية داخل الدولة الإسلامية وبخاصة ما يتعلق منها بالفتن الداخلية أو الصراع على الخلافة، بل إن تلك الأحداث كانت تشغل تفكير الأميرة، لأن تهديد العدو الخارجي كان يعطي للعناصر الفاسدة في الداخل فرصة لحبك المؤامرات وإشعال الفتن، كما أن العدو الداخلي كان يقدم للعدو الخارجي صورة عن الأوضاع الداخلية من أجل استغلالها في الضغط على الدولة الإسلامية وخليفتها.
إن ضعف الخلفاء وعكوفهم على ملذاتهم كانا يحولان دون توحيد الصفوف في الدولة الإسلامية، وكلما ازداد ضعف الخلفاء كثرت حوادث المتمردين الطامعين بتشجيع من عقبة السلمي وغيره من الجواسيس، وكانت الأميرة تقف في وجه مؤامراته دائماً ويساعدها البطَّال الذي اضطر في بعض المواقف إلى خطف الخليفة والقاضي عقبة السلمي لكشف مؤامرة عقبة على المسلمين، ولكن عقبة كان يعود في كل مرة لحبك مؤامرة جديدة تنقذه وتوقع بين الخليفة وجيش الثغور بقيادة الأميرة ذات الهمة.
ومن المؤامرات التي حبكها عقبة "نكبة البرامكة" وذلك لأنه لمس دعمهم ـ أي البرامكة ـ للأميرة وجيشها.. فقد قال عقبة للخليفة الرشيد ذات يوم "اعلم يا مولاي أن البرامكة جملتهم أربعة آلاف وقد بايعوا الظافر بن الرضا بخراسان، وعولوا أن يسلموا إليه قصرك وأن يزوجوه بأهلك، لأنه ذكر إلى جعفر أن عنده من السيدة زبيدة هوى، وقد أجابه إلى ذلك... وجعفر ضامر على أن يقلعك من الخلافة، وقد نوى لمولانا كل آفة "وكان عقبة قد دسَّ لجعفر البرمكي خطاباً يكشف عن هذه المؤامرة المزعومة، واستطاع الرشيد أن يطلَّع على الخطاب، ولم يكن لديه أدنى شك في حقيقة هذه المؤامرة، وقرر في الحال أن ينزل النكبة بالبرامكة واستطاع البطَّال أن يكشف للرشيد الرسالة المدسوسة، ولكن من الذي دسها لجعفر؟ أهو عقبة أم غيره؟ لم يستطع الرشيد أن يقطع الشك باليقين.
ثمّ توفي الرشيد وترك حكمه لابنه الأمين وللمأمون من بعده. وحين دب الخلاف بين الأخوين وقفت الأميرة ذات الهمة إلى جانب الأمين سعياً منها للوقوف مع الخليفة الشرعي وفق وصية هارون الرشيد، وتحقيقاً للتلاحم الداخلي الذي يدعم جبهتها مع العدو الرومي؛ فقد كان طموحها في القضاء على الروم في منطقة الثغور لا يحده خليفة أو خائن أو منافق أو اختلاف في الرأي، فقد حدث أن طلب ملك الروم من الأميرة ذات الهمة مساعدته بالقضاء على ثائر ضده يدعى "كوشا نوش" مقابل تسليمها مدينة عمورية، ففرحت الأميرة بذلك ولكن الخليفة المأمون عارضها، قائلاً إن عليها أن تنضم إلى صفوف الثائر الرومي للقضاء على ملك الروم، فرفضت الأميرة رأي الخليفة ممّا دفعه إلى إنذارها، فردت عليه الأميرة بقولها (دعنا في مَلَطية في وجوه الكفرة لا لك ولا علينا، ولا تلحَ علينا فيخرج الأمر من يدك ويدنا) ونفذّت الأميرة خطتها واستلمت مدينة عمورية، ثمّ استأنفت غاراتها على بلاد الروم.
في عصر المعتصم بالله أكدت النبوءة النصر النهائي للمسلمين على الروم، كما حددت زمنه، فقد ظهر الرسول الكريم إلى عبد الوهاب في رؤياه، وتبيّن عبد الوهاب حقيقة من خداع المنافقين وعلى رأسهم عقبة قائلاً: يا رسول الله عقبة ضرني، فهل ذلك الوعد الذي وعدتني قد اقترب؟ فقال: أتى أمر الله فلا تستعجلوه، فقال له عبد الوهاب: يا رسول الله خلق الإنسان من عجل، فمتى يكون ذلك؟ فقال: إذا وصلت الروم إلى الإسكندرية وأخذت العلوية، وفتح الله على أيديكم عمورية، وظهر "شو مدروس" المحتال.
وأخذت الأحداث تتلاحق تدريجياً، من ضرب القسطنطينية إلى فتح عمورية ثانية على يد الخليفة المعتصم، ثمّ صُلب عقبة على باب الذهب، حيث تمّ النصر للمسلمين على العدوَّين: الداخلي والخارجي وتوحد الوطن، ورفعت راية الحق والعدل.
هل يهتم دارسو التراث الشعبي بسيرة ذات الهمة الفلسطينية؟!
.. وعلى طول أكثر من ستو ن سنة لم تتوقف إسرائيل عن محاولة هدم الذاكرة الفلسطينية بنفس الطريقة التي يهدم بها البلدوزر منزلاً ويشرد عائلة..
لكن حقائق التاريخ أقوى من كلام جوبلز وقوة البلدوزر الإسرائيلي، ذلك أن هناك لحظات نادرة وعميقة تبقى عالقة بأعماقنا إلى آخر الزمان لأنها انحدرت إلينا من تجاويف التاريخ وحكمة الجدّات وأنين الشبّابة العريقة في دروب وقرى وجبال فلسطين.
ومن هذه الحكايات سيرة الأميرة الفلسطينية ذات الهمة.. وهي سيرة شعبية صحيحة تداولتها الأجيال منذ القرن الثامن الميلادي حتى يومنا هذا.
فنحن دائماً في حاجة لمعرفة تراثنا الشعبي في فلسطين باعتباره الهوية التي تؤكد ذاتنا في مواجهة نفي الآخر. وهذا التراث يحمل في داخله ذاكرة ثقافية هي ثقافة وذاكرة العامة التي تصوغ وعي التاريخ بذاته، داخل النسق المثيولوجي الذي يمثل الحكايات والرموز والحكمة الشعبية التي لا تبلى.
ولذلك نجد أن الفيلسوف أرسطوطاليس يوصي الإسكندر الأكبر بما معناه: أن عليه قبل أن يدخل أي بلد غازياً أن يصغي لأغانيه ويسمع حكاياته الشعبية حتى يستطيع أن يفهم نفسية الشعوب التي يحاربها ويتمكن من الانتصار عليها.
ولم يقل لنا التاريخ أن الإسكندر المقدوني حاول أن يقتلع ذاكرة الشعوب التي غزاها بالحرب والقتال لأنه كان يعلم أن ذلك أمر مستحيل وغير ممكن ولعل جوبلز النازي قد أدرك هذا أيضاً... فقدم صيغة أكثر تطرفاً وعدوانية تتمثل في إحراق ذاكرة الشعوب والقضاء على أساطيرها.. وهي صيغة تتفق مع نظرة هتلر العنصرية الحاقدة التي لم يكتب لها النجاح.
من هي الأميرة الفلسطينية ذات الهمة؟
تبدأ السيرة من عهد عبد الملك بن مروان الأموي، حيث ذاع صيت مروان بن الهيثم زعيم بني سُلَيم، كما ذاع صيت الحارث الكلابي زعيم قبيلة بني كلاب. وكانت الإمارة على العرب في قبيلة بني سُلَيم.
توفي الحارث الكلابي زعيم بني كلاب، فهربت زوجته الحامل مع عبدها سَلام، خوفاً على حياتها من الأعداء، وما إن خلا بها الطريق حتّى تعرض لها خادمها سلام محاولاً اغتصابها، ثمّ قتلها بعد أن وضعت جنيناً ذكراً وعلقت في رقبته تميمة تبين أصله ونسبه. وصادف ذلك خروج الأمير دارم ـ أحد الأمراء العرب ـ بجولة صيد فصادف في طريقه الجنين بجانب أمه المضرجة بدمائها، فتناوله الأمير دارم وضمه إلى بيته ورباه على الفروسية والقيم العربية وأطلق عليه اسم "جندبة" وحين شب جندبة وعرف حقيقة نسبه إلى قبيلة بني كلاب ترك قبيلة دارم إلى قبيلة بني كلاب لينصرها على منافستها قبيلة بني سُلَيم، ولكن القدر لم يمهله فقد قتل على يد الغطريف ـ أحد المرتزقة المتجولين في الصحراء ـ وسُرق فرسه بعد أن ترك زوجته حاملاً في قبيلة بني كلاب.
ولدت زوجة جندبة ولدها الصحصاح في بيت عمه عطاف، حيث شب على الفروسية وحب ابنة عمه ليلى، إلى أن غادر القبيلة هائماً على وجهه في الصحراء بحثاً عن مهر ابنة عمه، ولكن الصحراء أوصلته إلى قصر الخليفة الأموي في دمشق بعد أن أنقذ ابنته من براثن اللصوص الذين تعرضوا لها في الصحراء في أثناء عودتها من الحج.
في دمشق نُصِّب الصحصاح أميراً على القبائل العربية وعاد إلى قبيلته، بني كلاب، محملاً بالهدايا ومهر ليلى والإمارة، فتزوج حبيبته وضم إليه قبيلة بني كلاب وقبيلة بني سُلَيم، وحين استقر له الأمر في الجزيرة العربية أرسل خلفه الخليفة في دمشق وكلفه والقبائل التابعة له بمرافقة مسلمة بن عبد الملك لمحاصرة القسطنطينية.
رزق الصحصاح ولدين هما؛ ظالم ومظلوم وسميا في السيرة بهذين الاسمين للدلالة على طبيعة العلاقة التي سادت بينهما، إذ نشب بينهما الصراع على إمارة القبيلة، فحكِّم بينهما بأن تكون الإمارة في من تلد له زوجته ذكراً، ثمّ تكون لولده من بعده، وعند وضع زوجتيهما، ولدت زوجة ظالم ذكراً وولدت زوجة مظلوم أنثى سميت "فاطمة بنت مظلوم" وهي الأميرة ذات الهمة التي سميت السيرة باسمها.
خشيت مربية فاطمة على الوليدة الجديدة من تهكم القبيلة وظلم عمها ظالم، فهربت بها في إحدى الغزوات وربتها بعيداً عن قبيلتها على قيم الفروسية والإيمان، إلى أن ذاع صيتها بين القبائل العربية، فكشفت لها مربيتها حقيقة نسبها إلى قبيلة بني كلاب، فما كان من الأميرة إلا الالتحاق بقبيلتها، ولكنها فوجئت ببطش عمها وجبروت ابنه الحارث بن ظالم الذي أراد الزواج منها طمعاً في كسر شوكتها وإذلالها مع أبيها. ولكن فاطمة التي عرفت بالنزوع إلى الحرية، رفضت طلب ابن عمها، وحين ألح في طلبه اشترطت عليه منازلتها، وعندما غلبته في الصراع أمام القبيلة لجأ إلى الخليفة ليعينه عليها، فما كان من الأميرة، إلا أن قبلت بالزواج من ابن عمها واشترطت عليه عدم الدخول عليها في خلوة إلا بموافقتها. لم ينتظر الحارث كثيراً فسرعان ما دبر مؤامرة للتمكُّن من غايته بواسطة خادمتها التي دست لها المخدر في الطعام.
حملت الأميرة ذات الهمة من الحارث فاختفت عن الأنظار كي لا تُظهر ضعفها الأنثوي وهي التي نذرت نفسها للفروسية والجهاد في سبيل الله. وحين حان موعد وضعها ولدت ذكراً أسود سمته عبد الوهاب، ولشدة العداء بينها وبين الحارث وللونه الأسود رفض الحارث الاعتراف به، فخاضت الأميرة معركة طويلة ومتشعبة لإجباره على الاعتراف بولده عبد الوهاب، فحصلت بعد معاناة طويلة عل اعتراف القبائل العربية والخليفة الأموي بنسب ابنها إلى والده الحارث بن ظالم، وعلى إثر ذلك هرب الحارث مع أبيه ظالم وثلة من أفراد قبيلة بني سُلَيم وبعض أفراد قبيلة بني كلاب إلى بلاد الروم.
بذلك انتهت المرحلة التأسيسية في شخصية الأميرة ذات الهمة وانتهت هموم الأميرة الشخصية ليتاح لها التفرغ للهموم الكبيرة المتعلقة بالوطن الكبير، وبخاصة الصراع العربي ـ الرومي، حيث كان الصراع على أشده في منطقة الثغور، بالإضافة إلى وضع الصراع على السلطة في الدولة الإسلامية، وقد كانت الثورة العباسية قد حققت انتصارها على الخلافة الأموية.
وبوضوح الصورة على المستوى الشخصي ومستوى الصراع داخل الدولة الإسلامية تفرغت الأميرة ذات الهمة لمقاومة الروم في منطقة الثغور الجزرية وانتقلت مع قبيلتها وقبيلة بني سُلَيم والقبائل الأخرى المتحالفة معها إلى منطقة الثغور، ومنهم شكلت جيشها القوي المتطوع لملاحقة الروم والتصدي لهجماتهم، مدعومة من جيش الخليفة أحياناً ومنفردة في القتال أحياناً أخرى.
ولكن الأعداء في منطقة الثغور الرومية كانوا يعتمدون على الأعداء في الداخل ولذلك كانت مهمة الأميرة موزعة على جبهتين: داخلية وخارجية، خارجية ممثلة بالروم وداخلية ممثلة بالخونة وبالجواسيس الممثلين في السيرة بشخصية القاضي عقبة السُلَمي.
يمثل عقبة الفساد والنفاق والخيانة والحيلة في الحرب، فقد كان بدسائسه يزرع الفتنة في صفوف المسلمين، وكان يساعده في نجاح مؤامراته منصبه ـ كقاض للمسلمين، ولذلك دلالته ـ وتفقهه وثقافته ومعرفته العميقة بعلوم التنكر والسحر والشعوذة وغيرها.
وكانت الأميرة ذات الهمة تعمل دائماً على كشف مؤامرته وفضحها أمام الخليفة فتخفق في بعض المرات لشدة ذكائه وقوة حيلته أو لتعلق العامة به كقاض للمسلمين. ويساعد الأميرة في التصدي لحيله "أبو محمد البطَّال" الكلابي المتفنن في أساليب الحيل، وقد عبر عن ذلك بقوله (أنا ما صناعتي في الحرب والطعن والضرب وإنما صناعتي في الحيل والخداع في حصن أو قلعة) فكان دور البطَّال فعالاً في الحرب والسلم، إذ كان يتسلل داخل بلاد الروم متخفياً ويمكث بها زمناً يتيح له فرصة التعرف على من يكون عالماً بخطط الحرب، ثمّ يصطنع معه كافة الحيل حتّى يأخذ منه بعض المعلومات، وقد يسعى إلى تضليل الروم حتّى تتم خطة جيشه بنجاح، وقد يتسلل إلى الحصن المحاصَر فيفتحه بالحيلة والذكاء، حين يعجز السيف عن دخوله بالقوة.
إن الحرب في منطقة الثغور لم تُبْعد الأميرة ذات الهمة عن الأحداث الجارية داخل الدولة الإسلامية وبخاصة ما يتعلق منها بالفتن الداخلية أو الصراع على الخلافة، بل إن تلك الأحداث كانت تشغل تفكير الأميرة، لأن تهديد العدو الخارجي كان يعطي للعناصر الفاسدة في الداخل فرصة لحبك المؤامرات وإشعال الفتن، كما أن العدو الداخلي كان يقدم للعدو الخارجي صورة عن الأوضاع الداخلية من أجل استغلالها في الضغط على الدولة الإسلامية وخليفتها.
إن ضعف الخلفاء وعكوفهم على ملذاتهم كانا يحولان دون توحيد الصفوف في الدولة الإسلامية، وكلما ازداد ضعف الخلفاء كثرت حوادث المتمردين الطامعين بتشجيع من عقبة السلمي وغيره من الجواسيس، وكانت الأميرة تقف في وجه مؤامراته دائماً ويساعدها البطَّال الذي اضطر في بعض المواقف إلى خطف الخليفة والقاضي عقبة السلمي لكشف مؤامرة عقبة على المسلمين، ولكن عقبة كان يعود في كل مرة لحبك مؤامرة جديدة تنقذه وتوقع بين الخليفة وجيش الثغور بقيادة الأميرة ذات الهمة.
ومن المؤامرات التي حبكها عقبة "نكبة البرامكة" وذلك لأنه لمس دعمهم ـ أي البرامكة ـ للأميرة وجيشها.. فقد قال عقبة للخليفة الرشيد ذات يوم "اعلم يا مولاي أن البرامكة جملتهم أربعة آلاف وقد بايعوا الظافر بن الرضا بخراسان، وعولوا أن يسلموا إليه قصرك وأن يزوجوه بأهلك، لأنه ذكر إلى جعفر أن عنده من السيدة زبيدة هوى، وقد أجابه إلى ذلك... وجعفر ضامر على أن يقلعك من الخلافة، وقد نوى لمولانا كل آفة "وكان عقبة قد دسَّ لجعفر البرمكي خطاباً يكشف عن هذه المؤامرة المزعومة، واستطاع الرشيد أن يطلَّع على الخطاب، ولم يكن لديه أدنى شك في حقيقة هذه المؤامرة، وقرر في الحال أن ينزل النكبة بالبرامكة واستطاع البطَّال أن يكشف للرشيد الرسالة المدسوسة، ولكن من الذي دسها لجعفر؟ أهو عقبة أم غيره؟ لم يستطع الرشيد أن يقطع الشك باليقين.
ثمّ توفي الرشيد وترك حكمه لابنه الأمين وللمأمون من بعده. وحين دب الخلاف بين الأخوين وقفت الأميرة ذات الهمة إلى جانب الأمين سعياً منها للوقوف مع الخليفة الشرعي وفق وصية هارون الرشيد، وتحقيقاً للتلاحم الداخلي الذي يدعم جبهتها مع العدو الرومي؛ فقد كان طموحها في القضاء على الروم في منطقة الثغور لا يحده خليفة أو خائن أو منافق أو اختلاف في الرأي، فقد حدث أن طلب ملك الروم من الأميرة ذات الهمة مساعدته بالقضاء على ثائر ضده يدعى "كوشا نوش" مقابل تسليمها مدينة عمورية، ففرحت الأميرة بذلك ولكن الخليفة المأمون عارضها، قائلاً إن عليها أن تنضم إلى صفوف الثائر الرومي للقضاء على ملك الروم، فرفضت الأميرة رأي الخليفة ممّا دفعه إلى إنذارها، فردت عليه الأميرة بقولها (دعنا في مَلَطية في وجوه الكفرة لا لك ولا علينا، ولا تلحَ علينا فيخرج الأمر من يدك ويدنا) ونفذّت الأميرة خطتها واستلمت مدينة عمورية، ثمّ استأنفت غاراتها على بلاد الروم.
في عصر المعتصم بالله أكدت النبوءة النصر النهائي للمسلمين على الروم، كما حددت زمنه، فقد ظهر الرسول الكريم إلى عبد الوهاب في رؤياه، وتبيّن عبد الوهاب حقيقة من خداع المنافقين وعلى رأسهم عقبة قائلاً: يا رسول الله عقبة ضرني، فهل ذلك الوعد الذي وعدتني قد اقترب؟ فقال: أتى أمر الله فلا تستعجلوه، فقال له عبد الوهاب: يا رسول الله خلق الإنسان من عجل، فمتى يكون ذلك؟ فقال: إذا وصلت الروم إلى الإسكندرية وأخذت العلوية، وفتح الله على أيديكم عمورية، وظهر "شو مدروس" المحتال.
وأخذت الأحداث تتلاحق تدريجياً، من ضرب القسطنطينية إلى فتح عمورية ثانية على يد الخليفة المعتصم، ثمّ صُلب عقبة على باب الذهب، حيث تمّ النصر للمسلمين على العدوَّين: الداخلي والخارجي وتوحد الوطن، ورفعت راية الحق والعدل.
تقول سيرة الأدب الشعبي أن الاسم الحقيقي لذات الهمة هو فاطمة ابنة مظلوم بن الصحاح بن الحارث الكلابي. ولدت فاطمة وترعرعت في أحضان قبيلة فلسطينية في مطلع الإسلام وانتشاره وحروبه في مواجهة الدولة البيزنطية الرومانية حسب موسوعة الفولكلور والأساطير الشعبية لشوقي عبد الحكيم.
فتحت "ذات الهمة" عينيها على اعتداءات قبائل طيء المتكررة على قبيلتها وانخرطت في الدفاع عن شرف القبيلة، وأبدت شجاعة نادرة جعلتها تلقب (بذات الهمة) وهي المحاربة الحسناء التي عرفت الحب، وانجذبت إلى ابن عمها الأمير مرزوق فارتبطت بالزواج منه لصفات الشجاعة فيه ودفاعه عن قومه وأنجبت منه ولداً سمته عبد الوهاب.
وتبلغ أحداث سيرة الأميرة الفلسطينية 26 ألف صفحة في مخطوط من القطع المتوسط. ويقول شوقي عبد الحكيم أن النسخة الوحيدة محفوظة في مكتبة برلين.. ولم تصل إليها يد المطبعة.. وهي لهذا فخر لا يبارى بالنسبة للمكتبة المذكورة. وقد تم إنقاذها من الدمار الذي حدث في الحرب العالمية الثانية.
وكما نرى فإن الملحمة الشعبية ذات الهمة هي ملحمة فلسطينية الأصل والمنشأ. وأن انتقلت السيرة بعد ذلك من يافا وحيفا وعكا إلى ساحل سوريا كما دخلت إلى مصر عن طريق غزة حتى أن الكثيرين باتوا يعتقدون أن مصر هي الموطن الأصلي للسيرة بسبب ما لقيته من اهتمام بين الناس البسطاء وانتشارها في النجوع والقرى بواسطة شاعر الربابة الشعبي.
وتعتبر سيرة ذات الهمة وابنها عبد الوهاب من التراث الشعبي الذي لا يعرف مؤلفه . فهي تراث شعبي مهمل بالنسبة للباحثين الفلسطينيين الذين لم يلتفتوا إليه ولم يذكروه في دراساتهم وأبحاثهم عن الفولكلور الفلسطيني، ربما لعدم معرفتهم بأصل السيرة أو لأنها غير متداولة في أوساط العامة في فلسطين.
ولعل الأغاني والأمثال الشعبية والمواويل أكثر شيوعاً عندنا من السير المروية.. ما عدا بعض الحكايات التي لا ترقى إلى تفاصيل السيرة الملحمية المعروفة في بعض أقطار العالم العربي وخصوصاً في مصر.
تدور حكاية الأميرة الفلسطينية "ذات الهمة" في عهد الخلافة الأموية في دمشق.. وتحديداً في عصر عبد الملك بن مروان ثم مروان بن محمد وهو آخر الخلفاء الأمويين الذي لقي مصرعه في أبو صير في مصر الوسطى على يد أبو مسلم الخرساني.
وتمتد أحداث السيرة الشعبية حتى مطلع العصر العباسي.
وقد شهدت هذه الفترات المتعاقبة أحداثاً سياسية على جانب كبير من الخطورة سواء في الداخل أو الخارج. فكان الصراع على السلطة هو الصبغة التي طغت على تفاصيل السيرة التي تشمل أكثر من ألف صفحة تسرد هذا الصراع السياسي بين اليمين التقليدي واليسار الإسلامي الذي كان يحذر من الخطر الداهم المتمثل في الدولة البيزنطية التي كانت استعماراً متقدماً يطمع في السيطرة على ربوع الإسلام والثغور البحرية على الساحل الأفريقي.
ومن الطبيعي أن تنعكس هذه الأمور على العرب في فلسطين وأميرتهم ذات الهمة وابنها عبد الوهاب.
وقد استطاعت هذه الأسرة الفلسطينية أن تدافع عن الخلافة الإسلامية وذلك بسبب موقع فلسطين الساحلي مما جعل الفلسطينيين بمثابة طلائع بحرية في الثغور الممتدة حتى لبنان وسوريا، ومما وفر لهم الفرصة للنجاح في رد الغزوات عن العالم العربي . والسيرة تتحدث عن حرب بني كليب التغلبيين الفلسطينيين ضد الدولة البيزنطية التي تهدد الدولة الإسلامية.
ولا تتعرض موسوعة الفولكلور والأساطير العربية لتفاصيل السيرة الموجودة في مكتبة برلين وغير المنشورة حتى الآن . كما أنه من الصعب الإلمام بسياق التفاصيل التي تستغرق مجلدات عديدة، وتؤرخ لمراحل مختلفة من الحياة العربية في صدر الإسلام . فهذه السيرة – كما ذكرنا- فلسطينية الأصل والمنشأ، وتدل على أن الفلسطينيين موجودون على هذه الأرض ولهم حضارة وأبطال وسير وأنماط حياة عصرية، وهذه بقعة غائبة عن مؤرخي الفولكلور الشعبي والمهتمين بالتراث عامة. إذ لا نكاد نصادف أي ذكر لسيرة ذات الهمة فيما قرأنا من كتب ودراسات لمؤلفين فلسطينيين حيث لم يقتربوا من هذه السيرة بأي كلمة أو إشارة ويعتبرها شوقي عبد الحكيم أكبر سيرة في التاريخ. وتشكل سنداً تاريخياً علمياً يؤكد وجود شعب فلسطيني في مواجهة ادعاءات إسرائيل ومحاولات طمس الهوية. إننا في أشد الحاجة إلى كل سند وبرهان نقدمه للأجيال القادمة كي نؤكد أن تاريخنا يبدأ من فترات ما قبل الميلاد، وهو مستمر حتى الآن. وإننا موجودون هنا ولم نغادر الهوية والوطن لأن جذورنا أعمق من أي ادعاء وتزييف.
فقد قادت ذات الهمة الجيوش العربية ووصلت إلى مالطة والقسطنطينية وأصبحت امبراطورة متوجة لفترة من الزمن.. ولعب ابنها عبد الوهاب دوراً في أحداث الصراعات الداخلية التي انتهت بمذبحة البرامكة ، وكان متحالفاً مع جعفر البرمكي.. وتشمل السيرة الكثير من المعارك والسياسات التي كانت تحتدم داخل الدولة الإسلامية.. وفي كل الحالات تبرز ذات الهمة وابنها عبد الوهاب لتصوغ معه تلك الأحداث، وتؤثر فيها بشكل عميق.. بل وتغير مسارات الصراع سواء مع الدولة البيزنطية أو في مواجهة المؤامرات الداخلية التي كانت في صلب الخلافةتبدأ السيرة من عهد عبد الملك بن مروان الأموي، حيث ذاع صيت مروان بن الهيثم زعيم بني سُلَيم، كما ذاع صيت الحارث الكلابي زعيم قبيلة بني كلاب. وكانت الإمارة على العرب في قبيلة بني سُلَيم.
توفي الحارث الكلابي زعيم بني كلاب، فهربت زوجته الحامل مع عبدها سَلام، خوفاً على حياتها من الأعداء، وما إن خلا بها الطريق حتّى تعرض لها خادمها سلام محاولاً اغتصابها، ثمّ قتلها بعد أن وضعت جنيناً ذكراً وعلقت في رقبته تميمة تبين أصله ونسبه. وصادف ذلك خروج الأمير دارم ـ أحد الأمراء العرب ـ بجولة صيد فصادف في طريقه الجنين بجانب أمه المضرجة بدمائها، فتناوله الأمير دارم وضمه إلى بيته ورباه على الفروسية والقيم العربية وأطلق عليه اسم "جندبة" وحين شب جندبة وعرف حقيقة نسبه إلى قبيلة بني كلاب ترك قبيلة دارم إلى قبيلة بني كلاب لينصرها على منافستها قبيلة بني سُلَيم، ولكن القدر لم يمهله فقد قتل على يد الغطريف ـ أحد المرتزقة المتجولين في الصحراء ـ وسُرق فرسه بعد أن ترك زوجته حاملاً في قبيلة بني كلاب.
ولدت زوجة جندبة ولدها الصحصاح في بيت عمه عطاف، حيث شب على الفروسية وحب ابنة عمه ليلى، إلى أن غادر القبيلة هائماً على وجهه في الصحراء بحثاً عن مهر ابنة عمه، ولكن الصحراء أوصلته إلى قصر الخليفة الأموي في دمشق بعد أن أنقذ ابنته من براثن اللصوص الذين تعرضوا لها في الصحراء في أثناء عودتها من الحج.
في دمشق نُصِّب الصحصاح أميراً على القبائل العربية وعاد إلى قبيلته، بني كلاب، محملاً بالهدايا ومهر ليلى والإمارة، فتزوج حبيبته وضم إليه قبيلة بني كلاب وقبيلة بني سُلَيم، وحين استقر له الأمر في الجزيرة العربية أرسل خلفه الخليفة في دمشق وكلفه والقبائل التابعة له بمرافقة مسلمة بن عبد الملك لمحاصرة القسطنطينية.
رزق الصحصاح ولدين هما؛ ظالم ومظلوم وسميا في السيرة بهذين الاسمين للدلالة على طبيعة العلاقة التي سادت بينهما، إذ نشب بينهما الصراع على إمارة القبيلة، فحكِّم بينهما بأن تكون الإمارة في من تلد له زوجته ذكراً، ثمّ تكون لولده من بعده، وعند وضع زوجتيهما، ولدت زوجة ظالم ذكراً وولدت زوجة مظلوم أنثى سميت "فاطمة بنت مظلوم" وهي الأميرة ذات الهمة التي سميت السيرة باسمها.
خشيت مربية فاطمة على الوليدة الجديدة من تهكم القبيلة وظلم عمها ظالم، فهربت بها في إحدى الغزوات وربتها بعيداً عن قبيلتها على قيم الفروسية والإيمان، إلى أن ذاع صيتها بين القبائل العربية، فكشفت لها مربيتها حقيقة نسبها إلى قبيلة بني كلاب، فما كان من الأميرة إلا الالتحاق بقبيلتها، ولكنها فوجئت ببطش عمها وجبروت ابنه الحارث بن ظالم الذي أراد الزواج منها طمعاً في كسر شوكتها وإذلالها مع أبيها. ولكن فاطمة التي عرفت بالنزوع إلى الحرية، رفضت طلب ابن عمها، وحين ألح في طلبه اشترطت عليه منازلتها، وعندما غلبته في الصراع أمام القبيلة لجأ إلى الخليفة ليعينه عليها، فما كان من الأميرة، إلا أن قبلت بالزواج من ابن عمها واشترطت عليه عدم الدخول عليها في خلوة إلا بموافقتها. لم ينتظر الحارث كثيراً فسرعان ما دبر مؤامرة للتمكُّن من غايته بواسطة خادمتها التي دست لها المخدر في الطعام.
حملت الأميرة ذات الهمة من الحارث فاختفت عن الأنظار كي لا تُظهر ضعفها الأنثوي وهي التي نذرت نفسها للفروسية والجهاد في سبيل الله. وحين حان موعد وضعها ولدت ذكراً أسود سمته عبد الوهاب، ولشدة العداء بينها وبين الحارث وللونه الأسود رفض الحارث الاعتراف به، فخاضت الأميرة معركة طويلة ومتشعبة لإجباره على الاعتراف بولده عبد الوهاب، فحصلت بعد معاناة طويلة عل اعتراف القبائل العربية والخليفة الأموي بنسب ابنها إلى والده الحارث بن ظالم، وعلى إثر ذلك هرب الحارث مع أبيه ظالم وثلة من أفراد قبيلة بني سُلَيم وبعض أفراد قبيلة بني كلاب إلى بلاد الروم.
بذلك انتهت المرحلة التأسيسية في شخصية الأميرة ذات الهمة وانتهت هموم الأميرة الشخصية ليتاح لها التفرغ للهموم الكبيرة المتعلقة بالوطن الكبير، وبخاصة الصراع العربي ـ الرومي، حيث كان الصراع على أشده في منطقة الثغور، بالإضافة إلى وضع الصراع على السلطة في الدولة الإسلامية، وقد كانت الثورة العباسية قد حققت انتصارها على الخلافة الأموية.
وبوضوح الصورة على المستوى الشخصي ومستوى الصراع داخل الدولة الإسلامية تفرغت الأميرة ذات الهمة لمقاومة الروم في منطقة الثغور الجزرية وانتقلت مع قبيلتها وقبيلة بني سُلَيم والقبائل الأخرى المتحالفة معها إلى منطقة الثغور، ومنهم شكلت جيشها القوي المتطوع لملاحقة الروم والتصدي لهجماتهم، مدعومة من جيش الخليفة أحياناً ومنفردة في القتال أحياناً أخرى.
ولكن الأعداء في منطقة الثغور الرومية كانوا يعتمدون على الأعداء في الداخل ولذلك كانت مهمة الأميرة موزعة على جبهتين: داخلية وخارجية، خارجية ممثلة بالروم وداخلية ممثلة بالخونة وبالجواسيس الممثلين في السيرة بشخصية القاضي عقبة السُلَمي.
يمثل عقبة الفساد والنفاق والخيانة والحيلة في الحرب، فقد كان بدسائسه يزرع الفتنة في صفوف المسلمين، وكان يساعده في نجاح مؤامراته منصبه ـ كقاض للمسلمين، ولذلك دلالته ـ وتفقهه وثقافته ومعرفته العميقة بعلوم التنكر والسحر والشعوذة وغيرها.
وكانت الأميرة ذات الهمة تعمل دائماً على كشف مؤامرته وفضحها أمام الخليفة فتخفق في بعض المرات لشدة ذكائه وقوة حيلته أو لتعلق العامة به كقاض للمسلمين. ويساعد الأميرة في التصدي لحيله "أبو محمد البطَّال" الكلابي المتفنن في أساليب الحيل، وقد عبر عن ذلك بقوله (أنا ما صناعتي في الحرب والطعن والضرب وإنما صناعتي في الحيل والخداع في حصن أو قلعة) فكان دور البطَّال فعالاً في الحرب والسلم، إذ كان يتسلل داخل بلاد الروم متخفياً ويمكث بها زمناً يتيح له فرصة التعرف على من يكون عالماً بخطط الحرب، ثمّ يصطنع معه كافة الحيل حتّى يأخذ منه بعض المعلومات، وقد يسعى إلى تضليل الروم حتّى تتم خطة جيشه بنجاح، وقد يتسلل إلى الحصن المحاصَر فيفتحه بالحيلة والذكاء، حين يعجز السيف عن دخوله بالقوة.
إن الحرب في منطقة الثغور لم تُبْعد الأميرة ذات الهمة عن الأحداث الجارية داخل الدولة الإسلامية وبخاصة ما يتعلق منها بالفتن الداخلية أو الصراع على الخلافة، بل إن تلك الأحداث كانت تشغل تفكير الأميرة، لأن تهديد العدو الخارجي كان يعطي للعناصر الفاسدة في الداخل فرصة لحبك المؤامرات وإشعال الفتن، كما أن العدو الداخلي كان يقدم للعدو الخارجي صورة عن الأوضاع الداخلية من أجل استغلالها في الضغط على الدولة الإسلامية وخليفتها.
إن ضعف الخلفاء وعكوفهم على ملذاتهم كانا يحولان دون توحيد الصفوف في الدولة الإسلامية، وكلما ازداد ضعف الخلفاء كثرت حوادث المتمردين الطامعين بتشجيع من عقبة السلمي وغيره من الجواسيس، وكانت الأميرة تقف في وجه مؤامراته دائماً ويساعدها البطَّال الذي اضطر في بعض المواقف إلى خطف الخليفة والقاضي عقبة السلمي لكشف مؤامرة عقبة على المسلمين، ولكن عقبة كان يعود في كل مرة لحبك مؤامرة جديدة تنقذه وتوقع بين الخليفة وجيش الثغور بقيادة الأميرة ذات الهمة.
ومن المؤامرات التي حبكها عقبة "نكبة البرامكة" وذلك لأنه لمس دعمهم ـ أي البرامكة ـ للأميرة وجيشها.. فقد قال عقبة للخليفة الرشيد ذات يوم "اعلم يا مولاي أن البرامكة جملتهم أربعة آلاف وقد بايعوا الظافر بن الرضا بخراسان، وعولوا أن يسلموا إليه قصرك وأن يزوجوه بأهلك، لأنه ذكر إلى جعفر أن عنده من السيدة زبيدة هوى، وقد أجابه إلى ذلك... وجعفر ضامر على أن يقلعك من الخلافة، وقد نوى لمولانا كل آفة "وكان عقبة قد دسَّ لجعفر البرمكي خطاباً يكشف عن هذه المؤامرة المزعومة، واستطاع الرشيد أن يطلَّع على الخطاب، ولم يكن لديه أدنى شك في حقيقة هذه المؤامرة، وقرر في الحال أن ينزل النكبة بالبرامكة واستطاع البطَّال أن يكشف للرشيد الرسالة المدسوسة، ولكن من الذي دسها لجعفر؟ أهو عقبة أم غيره؟ لم يستطع الرشيد أن يقطع الشك باليقين.
ثمّ توفي الرشيد وترك حكمه لابنه الأمين وللمأمون من بعده. وحين دب الخلاف بين الأخوين وقفت الأميرة ذات الهمة إلى جانب الأمين سعياً منها للوقوف مع الخليفة الشرعي وفق وصية هارون الرشيد، وتحقيقاً للتلاحم الداخلي الذي يدعم جبهتها مع العدو الرومي؛ فقد كان طموحها في القضاء على الروم في منطقة الثغور لا يحده خليفة أو خائن أو منافق أو اختلاف في الرأي، فقد حدث أن طلب ملك الروم من الأميرة ذات الهمة مساعدته بالقضاء على ثائر ضده يدعى "كوشا نوش" مقابل تسليمها مدينة عمورية، ففرحت الأميرة بذلك ولكن الخليفة المأمون عارضها، قائلاً إن عليها أن تنضم إلى صفوف الثائر الرومي للقضاء على ملك الروم، فرفضت الأميرة رأي الخليفة ممّا دفعه إلى إنذارها، فردت عليه الأميرة بقولها (دعنا في مَلَطية في وجوه الكفرة لا لك ولا علينا، ولا تلحَ علينا فيخرج الأمر من يدك ويدنا) ونفذّت الأميرة خطتها واستلمت مدينة عمورية، ثمّ استأنفت غاراتها على بلاد الروم.
في عصر المعتصم بالله أكدت النبوءة النصر النهائي للمسلمين على الروم، كما حددت زمنه، فقد ظهر الرسول الكريم إلى عبد الوهاب في رؤياه، وتبيّن عبد الوهاب حقيقة من خداع المنافقين وعلى رأسهم عقبة قائلاً: يا رسول الله عقبة ضرني، فهل ذلك الوعد الذي وعدتني قد اقترب؟ فقال: أتى أمر الله فلا تستعجلوه، فقال له عبد الوهاب: يا رسول الله خلق الإنسان من عجل، فمتى يكون ذلك؟ فقال: إذا وصلت الروم إلى الإسكندرية وأخذت العلوية، وفتح الله على أيديكم عمورية، وظهر "شو مدروس" المحتال.
وأخذت الأحداث تتلاحق تدريجياً، من ضرب القسطنطينية إلى فتح عمورية ثانية على يد الخليفة المعتصم، ثمّ صُلب عقبة على باب الذهب، حيث تمّ النصر للمسلمين على العدوَّين: الداخلي والخارجي وتوحد الوطن، ورفعت راية الحق والعدل.
هل يهتم دارسو التراث الشعبي بسيرة ذات الهمة الفلسطينية؟!
} ......
تعليق