الجزء الأول
الفصل الأول
سرقة وسطو وخطف وقتل، تلك هي القضايا التي يتولاها رجال الشرطة في أغلب الأوقات وقضاياي انحصرت على السرقة والسطو وهو الذي كان يتهافت عليها المنحرفين بشكل كبير، لذا ما كنت لأنتهي من قضية حتى يُوَّكل إلي قضية أخرى، ربما لهذا السبب انزعجت مني زوجتي وطلبت الانفصال، وأنا ولغبائي وافقتها على طلبها فوراً في غمرت غضبي، وذلك ما ندمت عليه أشد الندم فيما بعد وقد زاد إحساسي بالندم حين اتصلت بي زوجتي - ناهد - لتقول لي " ستصبح أباً يا جواد، أنا حامل".
لقد صدمتني تلك العبارة ولمت نفسي كثيراً على تسرعي، لقد كانت تلك الأفكار تدور في رأسي حين قال لي زميلي حسام: الضابط جهاد يطلبك يا جواد.
لقد كان ذلك آخر ما ينقصني، قضية جديدة!، كم سئمت ذلك.
اتجهت إلى مكتب الضابط وأنا أتمايل كالعجائز، كنت سئماً فعلاً من العمل، لكني كنت مخطئاً في ظنوني، فحين رآني الضابط قال لي بعطف: اجلس يا جواد، لقد أخبرني حسام أنك تبدو مرهقاً جداً في الأيام الأخيرة.
- أنا كنت فقط... أقصد أنني..
- لا تكمل يا بني، أدرك حق الإدراك السبب في معاناتك، لكن ذلك لن يفيدك أبداً، عليك أن تتخذ قراراً في نهاية الأمر.
- آسف.. لكني اعتقد أننا في مكان عمل، والأمور الخاصة لا تناقش هنا.
كنت قد بدأت أتضايق من نظرت الآخرين لي، لست أول ولا آخر شخص ينفصل عن زوجته، وعلى كل حال ربما كنت السبب في نظرتهم إلي، فأنا وللأسف عاجز عن إخفاء مشاعري، قال لي الضابط: أعلم ذلك يا عزيزي، لكن نادراً ما أراك في هذه الأيام، وبما أنك توقفت عن زيارتي اضطررت للتحدث معك في وسط العمل.
- أنا آسف.
لقد شعرت حينها بأنني شخص أناني جداً، فذلك الضابط هو أبي في نهاية المطاف، كان علي مراعاة مشاعره الأبوية تجاهي، أبي يسكن لوحده في منزل كبير وربما كنت سأفضل البقاء معه لو لا الشرط الذي وضعته ناهد حيث أرادت أن يكون لها منزل خاص، لا شك أنه يشعر بالوحدة من بعدي، لذا قلت له: أنا آسف أبي.
- كان من شأني أن أطلب منك المجيء للإقامة معي لولا أنني قررت إرسالك لقرية الأنوار.
- قرية الأنوار!.
قرية الأنوار هي قرية صغيرة تقع في آخر المدينة وهي في الحقيقة أرض واسعة يعتمد أهلها على الزراعة في عيشهم، هي بعيدة جداً عن الشارع العام لذا فهي تتمتع بالهدوء، عشت هناك أيام طفولتي مع عمتي سارة وزوجها، بينما كان أبي في المدينة يقوم بعمله وكان يأتي إلينا في آخر الأسبوع، بعدها انتقلت للعيش مع أبي وكنت أزور عمتي بين الحين والآخر لكني انقطعت عن ذلك منذ أن بدأت بالعمل، واستغربتُ أن أبي يريد إرسالي إلى هناك والإجازة لا تزال بعيدة فقال لي: ألم يعجبك قراري، أم تراك سئمت من تلك القرية البدائية.
- بالطبع لا يا أبي، لكن .. لا تزال الإجازة بعيدة الأمد ولو كان الأمر بيدي لاتجهت من فوري إلى هناك فأنا أشعر بالضيق هنا.
- لكنك ستذهب بخصوص العمل يا عزيزي، وفي الوقت ذاته تستمتع بهواء قرية الأنوار النقية.
- وما هو نوع العمل الذي يتطلب مني الذهاب إلى القرية؟!.
عندها رمى أبي بملف أصفر أمامي قائلاً: هذا التقرير من شرطة القرية، هناك شكوك بأن مُروِجي المخدرات ينتشرون في القرية وقد حصلت حالتي وفاة بسبب المخدرات وهناك شك بوجود عدد كبير من المتعاطين.
- المخدرات!، في تلك القرية الصغيرة!.
- أجل.
- وما هي مهمتي أنا ؟! ... أنت تعلم أن قضايا المخدرات ليست من اختصاصي.
- أعلم، وعلى كل حال لقد وكلتُ القضية لهاني .
هاني هو أحد أبرع الشرطين الذين عرفتهم على الإطلاق، وهو رجل في الأربعين من عمره له خبرة في التعامل مع مروجي المخدرات وقد حقق نجاحاً رائعاً، لكني فعلاً لا أفهم ما هو موقعي في هذه القضية، وسرعان ما أجابني والدي على سؤالي قائلاً: أنت ستكون مرافق هاني، ولكن بشكل سري.
- مرافق هاني!، وبشكل سري!، أبي أنا لا أفهم.
- اسمعني جيداً يا جواد، التقرير يبين أن هناك مروجي المخدرات من بين الأهالي وبما أن عدد أهالي القرية إجمالاً ليس بالكثير، فهذا يعني بأنه من المفترض أن يكون سهلاً جداً إيجاد ذاك المجرم، لكن كما ترى لم تصل شرطة القرية إلى أي دليل يقودهم للفاعل، لذا سيكون من المفيد جداً أن يختلط أحد ما ((شريطة أن يكون من خارج تلك القرية)) بالأهالي فذلك سيكون أسهل في كشف المجرم من بينهم، وأنت..
- وأنا سأكون ذلك الشخص، لكن أبي لماذا اخترتني أنا بالتحديد؟!.
- هاني هو الذي أقترح علي ذلك.
- هل هو واثق من اختياره، قد لا أفيده بشيء.
- اعتقد أنه أحسن الاختيار، فسيكون من الطبيعي جداً أن تذهب لزيارة عمتك يا عزيزي.
- ربما، لكن بما أن عمتي تسكن هناك فلا بد أن الجميع يعلم بأنني شرطي.
- لا، لقد أرسلت لي عمتك رسالة فيها جواب على سؤالي، لم تكن تعلم أنك عملت في الشرطة فهي كانت تعتقد بأنك أصبحت طياراً، يبدو أنك كنت تردد ذلك على مسامعها كثيراً.
- اعترف بهذا، فالطيران كان أشد ما يجذبني.
- حسناً، كل شيء جيد، أدرس ملف القضية واستعد للذهاب إلى القرية بعد غد.
- بعد غد!، بهذه السرعة!.
- عملنا يتطلب السرعة، نخشى من ازدياد عدد الضحايا.
******************
لقد مر اليومان بسرعة البرق لم أكد أتمكن من فهم كل ما علي فعله، وفي اليوم الذي توجب علي الذهاب إلى القرية التقيت بالضابط هاني، لقد كان بالفعل ضابطاً قديراً، حياني بمودة ثم قال لي: جواد، كل ما عليك فعله هو التصرف بشكل طبيعي، إنسَ أنك شرطي واستمتع بإجازتك.
اكتفيتُ بتحريك رأسي دليلاً على الموافقة، بينما تابع هو قائلا: وفي حال اشتبهت بأيٍ كان ولأي سبب يمكنك إبلاغي، هل أعطاك والدك رقمي؟.
- أجل، اطمئن سأكون حريصاً.
- كل ما أريده منك هو أن تكون طبيعياً.
- أمرك.
وقبل أن أقود سيارتي في طريقي أمسكت هاتفي واتصلت بناهد، جاء صوتها متعباً من خلال الهاتف فقلت لها: ناهد، أنا جواد، كيف حالك؟.
- جواد، أنا بخير، ما الأمر، لم اتصلت ؟.
- حسناً.. أنا.. أقصد أردت الاطمئنان عليك.
- بل أردت الاطمئنان على الجنين، لا تقلق، لقد راجعت الطبيب اليوم، إنه بخير، أنا بشهري الثامن الآن، لم يبقى سوى شهر وترى الطفل بإذن الله.
- اهتمي بنفسك أيضاً.
- حسناً، هل هناك أمر آخر؟.
- لا، أردت إخبارك بأني سأذهب إلى قرية الأنوار وسأغيب لعدة أسابيع، فإن احتجتِ لشيء فلا تترددي بطلبه من والدي.
- لا بأس.
- إلى اللقاء.
أغلقت الهاتف وبقيت في مكاني أمام سيارتي بعض الوقت شارد الذهن، لم أصحو من غفلتي إلا عندما سمعت صوت حسام من خلفي قائلاً: هي، أي صديق أنت ؟، أكنت تنوي الرحيل دون أن تودعني؟.
- حسام.. آسف، إلى اللقاء.
قلت ذلك ثم صعدت سيارتي فأطل حسام من نافذة السيارة قائلاً: ما الأمر، هل تحدثت مع زوجتك؟.
- لم تعد ناهد زوجتي يا حسام.
- حسناً، لكنك تحدثت إليها ذلك واضح عليك فأنت مكتئب.
كم كان من الصعب علي أن أخفي مشاعري خاصة عن حسام، فقلت له: كنتُ مخطئاً يا حسام، لكنني لا أريد للطفل أن يتحمل نتيجة خطأي.
- صحح خطأك، لم يفت الأوان بعد.
- لا، هذا مستحيل، وعلى كل حال حين قلت بأني مخطئ لم أقصد بذلك انفصالي عنها بل ارتباطي بها.
قلت له ذلك والمرارة واضحة بصوتي ثم ابتعدت بسيارتي عنه وأنا أشعر بالضيق.
******************
لقد استغرق عبوري للطريق العام خمس ساعات متواصلة، ثم خرجت من الطريق العام وتوغلت في الطريق الترابي، كانت السيارة تتمايل كما لو كانت تتراقص، وبعد أقل من ساعة وصلت إلى مشارف قرية الأنوار، كانت بمزارعها وأرضها الخضراء الرائعة تسر الناظر إليها ، لكنني لم استطع العبور بالسيارة إلى الطريق المؤدي إلى منزل عمتي، لذا أوقفت السيارة في مرآب قديم هناك، ثم أكملت طريقي سيراً على الأقدام، كان الجو صحواً والهواء نقي ورائع، شعرت ببعض البهجة وأنا أسير بالقرب من المزارع، لم يكن هناك كثير من المباني، مجرد منازل قديمة الطراز ، من شأني أن أقول عن القرية بأنها البقعة المهملة من العالم ، ومع هذا بدا الأهالي سعداء هنا كما لو أنهم في المدينة.
استأنفت طريقي بعد أن توقفت لأرى الأطفال الصغار يلعبون ويركضون هنا وهناك ، كنت أمشي بمحاذاة السياج وفي الطرف الآخر كان هناك عدد من الجياد وصبي يبدو وكأنه يحاول ترويض جواد أسود جميل ، وقفت برهة لأراه وهو يفعل ذلك ، لقد كان يحاول ركوب الجواد لكنه فشل بذلك إذ أن الجواد أسقطه من على ظهره، كانت سقطة مؤلمة فخشيت أن يكون الفتى قد تأذى فأسرعت إليه وسألته قائلاً: هل أنت بخير؟.
فقال الفتى دون أن ينظر إلي: بخير!، خير لك أن تسألني إن كنت حياً أم ميتاً.
- لا تبالغ بذلك أيها الفتى، كانت سقطة مؤلمة ولكنها لم تكن قاتلة.
حينها نظر الفتى إلي وظل يتأملني باستغراب وقد خمنت أنه يراني شخص غريب عن هذه القرية ، لكنه أذهلني فعلاً حين اندفع قائلاً: أنت جواد أليس كذلك؟!.
نظرت إليه باستغراب إذ كيف لفتى غريب أقابله للمرة الأولى أن يتعرف علي فأكمل الفتى قائلاً: آه، واضح أنك لم تعرفني، يا لك من ابن خال، كيف لك ألا تتعرف على ابن عمتك.
- ابن عمتي!، أتقصد أنك طارق.
- أجل يا ابن الخال، أنا طارق، أنت لم تعرفني إذاً، كم هذا مؤسف جداً.
قال ذلك بلهجة ساخرة مما أغاظني فقلت له : لا يمكنك أن تلومني فقد كنت في الخامسة حين رأيتك آخر مرة، على كل كيف حال السيد عادل الآن؟!، أخبرني أبي أنه اضطر للسفر إلى باريس للعلاج.
- لقد كبر في السن .
- أعتقد هذا فوالدك يكبر أبي بخمس سنوات تقريباً وإن كان أبي يبدو كهلاً الآن فلا استغرب أن يكون حال والدك أسوء.
صمتنا قليلاً وقد شعرت لحظتها بجو من التوتر والقلق، ثم قال لي طارق: أمي تنتظر مجيئك بفارغ الصبر ، توقعنا أن تأتي بسيارتك فهذا ما قاله خالي في رسالته .
- لقد أتيت بالسيارة لكن الطريق وعر جداً هنا ويصعب علي العبور منها بالسيارة لذا تركتها في مرآب قريب من هنا وأتيت سيراً.
- الطرقات وعرة فعلاً هنا .
ثم قال لي مبتسماً بخبث: شاب وسيم ، شعره أسود كسواد الليل وله شارب منسق الشكل وعيناه مائلتين للأزرق الغامق وهو طويل القامة.
نظرت إليه بدهشة فقال لي وقد بدأ بالضحك: كيف تعتقد أنني تعرفت إليك؟!.
قلت له بدهشة : أكنت تصفني؟، هل هناك من أخبرك بهذه المواصفات ، أهي عمتي أم هو أبي؟!.
- لقد ذكر والدك مواصفاتك برسالته.
قلت له وقد خاب أملي به: اعتقدت أنك تملك ذاكرة قوية.
- لا يمكنك أن تلومني فلم أكن سوى طفل في الخامسة، وإن كنت ستلومني، فسألومك أنا أيضاً وموقفي سيكون أقوى.
قال ذلك ثم ضحك بمرح مما جعلني أشاركه بالضحك، وبما أنه قام بوصفي لذا أشعر بأن علي أن أصفه هو الآخر، طارق فتى في السابعة عشر من العمر وهو فتى بدين بعض الشيء يشبه بذلك والده السيد عادل، لديه عينان عسليتان وشعر بني غامق ، وصوته رقيق بعض الشيء، قال لي بصوته العذب: هيا إلى المنزل ، لابد أن أمي تنتظرك بفارغ الصبر، لم تغب عن بالها لحظة واحدة، كانت دوماً تحدثني عنك، حتى كدت أن تكون أسطورة.
- كم أنا مشتاق لعمتي الحبيبة.
- إذن هيا بنا.
******************
لقد كانت عمتي كما تركتها في زيارتي السابقة، امرأة متوسطة الطول نحيلة بعض الشيء وقد غزى الشيب شعرها، قابلتني بعناق حار، وهي تردد عبارات الترحيب، ثم أخذتني لغرفتي لأرتاح ، وقبل أن تغادر الغرفة قالت لي: أتمنى أن تستمتع بإجازتك هنا وتنسى كل مشاكلك.
- وهل ينسى المرء نفسه؟.
- إنها أمور تحدث بالحياة فلا تحملها فوق ما تستحق.
- لكن طفلي يستحق كل اهتمامي يا عمتي.
- مثل هذه الأمور تحدث في هذه الحياة .. ابنك سيكون على خير ما يرام بما أنكما متفاهمان بخصوصه.
- لا اعتقد أننا كذلك أبداً.
- جواد !، لم لا تعود إليها.
- ليس ذلك بيدي، أنا مستعد للتضحية بحياتي من أجل طفلي، أما هي .. لديها وجهت نظر أخرى فهي تعتقد بأنه سيعاني معنا كما أنها..
- ماذا؟!.
- لا شيء، لكن لا اعتقد أننا سنتفق.
- على كل حال لست أول ولا آخر شخص ينفصل عن زوجته وهو على وشك أن يرزق بطفل، لا تحمل الأمر فوق ما يستحق يا بني، والدك أيضاً انفصل عن زوجته قبل أن تخرج أنت إلى هذه الحياة وكما أرى فأنت على خير ما يرام ولم تتأثر بذلك.
نظرت إليها وهي تخرج من الغرفة، ليتها تعلم أن ذلك هو السبب الوحيد لمعاناتي ، لا أريد لابني أن يعاني مثلي، لا أريده أن يعيش بعيداً عن أحد أبويه ، لقد عانيتُ كثيراً بسبب بعدي عن أمي، لقد كانت عمتي لطيفة وقد ملأت الفراغ الذي خلّفه غياب أمي، لكن حين انتقلت للعيش مع أبي مررت بظروف قاهرة، لقد حاول أبي أن يعوضني عن أمي، لكن لا شيء يعوض عن حنان الأم ، مررت بلحظات كنت فيها بأمس الحاجة لأمي، لا أريد أن يحدث ذلك لطفلي القادم ، لكن .. ماذا بوسعي فعله ؟ ، رددت هذه الكلمات بينما غلبني النعاس ونمت نوماً طويلاً.
الفصل الأول
سرقة وسطو وخطف وقتل، تلك هي القضايا التي يتولاها رجال الشرطة في أغلب الأوقات وقضاياي انحصرت على السرقة والسطو وهو الذي كان يتهافت عليها المنحرفين بشكل كبير، لذا ما كنت لأنتهي من قضية حتى يُوَّكل إلي قضية أخرى، ربما لهذا السبب انزعجت مني زوجتي وطلبت الانفصال، وأنا ولغبائي وافقتها على طلبها فوراً في غمرت غضبي، وذلك ما ندمت عليه أشد الندم فيما بعد وقد زاد إحساسي بالندم حين اتصلت بي زوجتي - ناهد - لتقول لي " ستصبح أباً يا جواد، أنا حامل".
لقد صدمتني تلك العبارة ولمت نفسي كثيراً على تسرعي، لقد كانت تلك الأفكار تدور في رأسي حين قال لي زميلي حسام: الضابط جهاد يطلبك يا جواد.
لقد كان ذلك آخر ما ينقصني، قضية جديدة!، كم سئمت ذلك.
اتجهت إلى مكتب الضابط وأنا أتمايل كالعجائز، كنت سئماً فعلاً من العمل، لكني كنت مخطئاً في ظنوني، فحين رآني الضابط قال لي بعطف: اجلس يا جواد، لقد أخبرني حسام أنك تبدو مرهقاً جداً في الأيام الأخيرة.
- أنا كنت فقط... أقصد أنني..
- لا تكمل يا بني، أدرك حق الإدراك السبب في معاناتك، لكن ذلك لن يفيدك أبداً، عليك أن تتخذ قراراً في نهاية الأمر.
- آسف.. لكني اعتقد أننا في مكان عمل، والأمور الخاصة لا تناقش هنا.
كنت قد بدأت أتضايق من نظرت الآخرين لي، لست أول ولا آخر شخص ينفصل عن زوجته، وعلى كل حال ربما كنت السبب في نظرتهم إلي، فأنا وللأسف عاجز عن إخفاء مشاعري، قال لي الضابط: أعلم ذلك يا عزيزي، لكن نادراً ما أراك في هذه الأيام، وبما أنك توقفت عن زيارتي اضطررت للتحدث معك في وسط العمل.
- أنا آسف.
لقد شعرت حينها بأنني شخص أناني جداً، فذلك الضابط هو أبي في نهاية المطاف، كان علي مراعاة مشاعره الأبوية تجاهي، أبي يسكن لوحده في منزل كبير وربما كنت سأفضل البقاء معه لو لا الشرط الذي وضعته ناهد حيث أرادت أن يكون لها منزل خاص، لا شك أنه يشعر بالوحدة من بعدي، لذا قلت له: أنا آسف أبي.
- كان من شأني أن أطلب منك المجيء للإقامة معي لولا أنني قررت إرسالك لقرية الأنوار.
- قرية الأنوار!.
قرية الأنوار هي قرية صغيرة تقع في آخر المدينة وهي في الحقيقة أرض واسعة يعتمد أهلها على الزراعة في عيشهم، هي بعيدة جداً عن الشارع العام لذا فهي تتمتع بالهدوء، عشت هناك أيام طفولتي مع عمتي سارة وزوجها، بينما كان أبي في المدينة يقوم بعمله وكان يأتي إلينا في آخر الأسبوع، بعدها انتقلت للعيش مع أبي وكنت أزور عمتي بين الحين والآخر لكني انقطعت عن ذلك منذ أن بدأت بالعمل، واستغربتُ أن أبي يريد إرسالي إلى هناك والإجازة لا تزال بعيدة فقال لي: ألم يعجبك قراري، أم تراك سئمت من تلك القرية البدائية.
- بالطبع لا يا أبي، لكن .. لا تزال الإجازة بعيدة الأمد ولو كان الأمر بيدي لاتجهت من فوري إلى هناك فأنا أشعر بالضيق هنا.
- لكنك ستذهب بخصوص العمل يا عزيزي، وفي الوقت ذاته تستمتع بهواء قرية الأنوار النقية.
- وما هو نوع العمل الذي يتطلب مني الذهاب إلى القرية؟!.
عندها رمى أبي بملف أصفر أمامي قائلاً: هذا التقرير من شرطة القرية، هناك شكوك بأن مُروِجي المخدرات ينتشرون في القرية وقد حصلت حالتي وفاة بسبب المخدرات وهناك شك بوجود عدد كبير من المتعاطين.
- المخدرات!، في تلك القرية الصغيرة!.
- أجل.
- وما هي مهمتي أنا ؟! ... أنت تعلم أن قضايا المخدرات ليست من اختصاصي.
- أعلم، وعلى كل حال لقد وكلتُ القضية لهاني .
هاني هو أحد أبرع الشرطين الذين عرفتهم على الإطلاق، وهو رجل في الأربعين من عمره له خبرة في التعامل مع مروجي المخدرات وقد حقق نجاحاً رائعاً، لكني فعلاً لا أفهم ما هو موقعي في هذه القضية، وسرعان ما أجابني والدي على سؤالي قائلاً: أنت ستكون مرافق هاني، ولكن بشكل سري.
- مرافق هاني!، وبشكل سري!، أبي أنا لا أفهم.
- اسمعني جيداً يا جواد، التقرير يبين أن هناك مروجي المخدرات من بين الأهالي وبما أن عدد أهالي القرية إجمالاً ليس بالكثير، فهذا يعني بأنه من المفترض أن يكون سهلاً جداً إيجاد ذاك المجرم، لكن كما ترى لم تصل شرطة القرية إلى أي دليل يقودهم للفاعل، لذا سيكون من المفيد جداً أن يختلط أحد ما ((شريطة أن يكون من خارج تلك القرية)) بالأهالي فذلك سيكون أسهل في كشف المجرم من بينهم، وأنت..
- وأنا سأكون ذلك الشخص، لكن أبي لماذا اخترتني أنا بالتحديد؟!.
- هاني هو الذي أقترح علي ذلك.
- هل هو واثق من اختياره، قد لا أفيده بشيء.
- اعتقد أنه أحسن الاختيار، فسيكون من الطبيعي جداً أن تذهب لزيارة عمتك يا عزيزي.
- ربما، لكن بما أن عمتي تسكن هناك فلا بد أن الجميع يعلم بأنني شرطي.
- لا، لقد أرسلت لي عمتك رسالة فيها جواب على سؤالي، لم تكن تعلم أنك عملت في الشرطة فهي كانت تعتقد بأنك أصبحت طياراً، يبدو أنك كنت تردد ذلك على مسامعها كثيراً.
- اعترف بهذا، فالطيران كان أشد ما يجذبني.
- حسناً، كل شيء جيد، أدرس ملف القضية واستعد للذهاب إلى القرية بعد غد.
- بعد غد!، بهذه السرعة!.
- عملنا يتطلب السرعة، نخشى من ازدياد عدد الضحايا.
******************
لقد مر اليومان بسرعة البرق لم أكد أتمكن من فهم كل ما علي فعله، وفي اليوم الذي توجب علي الذهاب إلى القرية التقيت بالضابط هاني، لقد كان بالفعل ضابطاً قديراً، حياني بمودة ثم قال لي: جواد، كل ما عليك فعله هو التصرف بشكل طبيعي، إنسَ أنك شرطي واستمتع بإجازتك.
اكتفيتُ بتحريك رأسي دليلاً على الموافقة، بينما تابع هو قائلا: وفي حال اشتبهت بأيٍ كان ولأي سبب يمكنك إبلاغي، هل أعطاك والدك رقمي؟.
- أجل، اطمئن سأكون حريصاً.
- كل ما أريده منك هو أن تكون طبيعياً.
- أمرك.
وقبل أن أقود سيارتي في طريقي أمسكت هاتفي واتصلت بناهد، جاء صوتها متعباً من خلال الهاتف فقلت لها: ناهد، أنا جواد، كيف حالك؟.
- جواد، أنا بخير، ما الأمر، لم اتصلت ؟.
- حسناً.. أنا.. أقصد أردت الاطمئنان عليك.
- بل أردت الاطمئنان على الجنين، لا تقلق، لقد راجعت الطبيب اليوم، إنه بخير، أنا بشهري الثامن الآن، لم يبقى سوى شهر وترى الطفل بإذن الله.
- اهتمي بنفسك أيضاً.
- حسناً، هل هناك أمر آخر؟.
- لا، أردت إخبارك بأني سأذهب إلى قرية الأنوار وسأغيب لعدة أسابيع، فإن احتجتِ لشيء فلا تترددي بطلبه من والدي.
- لا بأس.
- إلى اللقاء.
أغلقت الهاتف وبقيت في مكاني أمام سيارتي بعض الوقت شارد الذهن، لم أصحو من غفلتي إلا عندما سمعت صوت حسام من خلفي قائلاً: هي، أي صديق أنت ؟، أكنت تنوي الرحيل دون أن تودعني؟.
- حسام.. آسف، إلى اللقاء.
قلت ذلك ثم صعدت سيارتي فأطل حسام من نافذة السيارة قائلاً: ما الأمر، هل تحدثت مع زوجتك؟.
- لم تعد ناهد زوجتي يا حسام.
- حسناً، لكنك تحدثت إليها ذلك واضح عليك فأنت مكتئب.
كم كان من الصعب علي أن أخفي مشاعري خاصة عن حسام، فقلت له: كنتُ مخطئاً يا حسام، لكنني لا أريد للطفل أن يتحمل نتيجة خطأي.
- صحح خطأك، لم يفت الأوان بعد.
- لا، هذا مستحيل، وعلى كل حال حين قلت بأني مخطئ لم أقصد بذلك انفصالي عنها بل ارتباطي بها.
قلت له ذلك والمرارة واضحة بصوتي ثم ابتعدت بسيارتي عنه وأنا أشعر بالضيق.
******************
لقد استغرق عبوري للطريق العام خمس ساعات متواصلة، ثم خرجت من الطريق العام وتوغلت في الطريق الترابي، كانت السيارة تتمايل كما لو كانت تتراقص، وبعد أقل من ساعة وصلت إلى مشارف قرية الأنوار، كانت بمزارعها وأرضها الخضراء الرائعة تسر الناظر إليها ، لكنني لم استطع العبور بالسيارة إلى الطريق المؤدي إلى منزل عمتي، لذا أوقفت السيارة في مرآب قديم هناك، ثم أكملت طريقي سيراً على الأقدام، كان الجو صحواً والهواء نقي ورائع، شعرت ببعض البهجة وأنا أسير بالقرب من المزارع، لم يكن هناك كثير من المباني، مجرد منازل قديمة الطراز ، من شأني أن أقول عن القرية بأنها البقعة المهملة من العالم ، ومع هذا بدا الأهالي سعداء هنا كما لو أنهم في المدينة.
استأنفت طريقي بعد أن توقفت لأرى الأطفال الصغار يلعبون ويركضون هنا وهناك ، كنت أمشي بمحاذاة السياج وفي الطرف الآخر كان هناك عدد من الجياد وصبي يبدو وكأنه يحاول ترويض جواد أسود جميل ، وقفت برهة لأراه وهو يفعل ذلك ، لقد كان يحاول ركوب الجواد لكنه فشل بذلك إذ أن الجواد أسقطه من على ظهره، كانت سقطة مؤلمة فخشيت أن يكون الفتى قد تأذى فأسرعت إليه وسألته قائلاً: هل أنت بخير؟.
فقال الفتى دون أن ينظر إلي: بخير!، خير لك أن تسألني إن كنت حياً أم ميتاً.
- لا تبالغ بذلك أيها الفتى، كانت سقطة مؤلمة ولكنها لم تكن قاتلة.
حينها نظر الفتى إلي وظل يتأملني باستغراب وقد خمنت أنه يراني شخص غريب عن هذه القرية ، لكنه أذهلني فعلاً حين اندفع قائلاً: أنت جواد أليس كذلك؟!.
نظرت إليه باستغراب إذ كيف لفتى غريب أقابله للمرة الأولى أن يتعرف علي فأكمل الفتى قائلاً: آه، واضح أنك لم تعرفني، يا لك من ابن خال، كيف لك ألا تتعرف على ابن عمتك.
- ابن عمتي!، أتقصد أنك طارق.
- أجل يا ابن الخال، أنا طارق، أنت لم تعرفني إذاً، كم هذا مؤسف جداً.
قال ذلك بلهجة ساخرة مما أغاظني فقلت له : لا يمكنك أن تلومني فقد كنت في الخامسة حين رأيتك آخر مرة، على كل كيف حال السيد عادل الآن؟!، أخبرني أبي أنه اضطر للسفر إلى باريس للعلاج.
- لقد كبر في السن .
- أعتقد هذا فوالدك يكبر أبي بخمس سنوات تقريباً وإن كان أبي يبدو كهلاً الآن فلا استغرب أن يكون حال والدك أسوء.
صمتنا قليلاً وقد شعرت لحظتها بجو من التوتر والقلق، ثم قال لي طارق: أمي تنتظر مجيئك بفارغ الصبر ، توقعنا أن تأتي بسيارتك فهذا ما قاله خالي في رسالته .
- لقد أتيت بالسيارة لكن الطريق وعر جداً هنا ويصعب علي العبور منها بالسيارة لذا تركتها في مرآب قريب من هنا وأتيت سيراً.
- الطرقات وعرة فعلاً هنا .
ثم قال لي مبتسماً بخبث: شاب وسيم ، شعره أسود كسواد الليل وله شارب منسق الشكل وعيناه مائلتين للأزرق الغامق وهو طويل القامة.
نظرت إليه بدهشة فقال لي وقد بدأ بالضحك: كيف تعتقد أنني تعرفت إليك؟!.
قلت له بدهشة : أكنت تصفني؟، هل هناك من أخبرك بهذه المواصفات ، أهي عمتي أم هو أبي؟!.
- لقد ذكر والدك مواصفاتك برسالته.
قلت له وقد خاب أملي به: اعتقدت أنك تملك ذاكرة قوية.
- لا يمكنك أن تلومني فلم أكن سوى طفل في الخامسة، وإن كنت ستلومني، فسألومك أنا أيضاً وموقفي سيكون أقوى.
قال ذلك ثم ضحك بمرح مما جعلني أشاركه بالضحك، وبما أنه قام بوصفي لذا أشعر بأن علي أن أصفه هو الآخر، طارق فتى في السابعة عشر من العمر وهو فتى بدين بعض الشيء يشبه بذلك والده السيد عادل، لديه عينان عسليتان وشعر بني غامق ، وصوته رقيق بعض الشيء، قال لي بصوته العذب: هيا إلى المنزل ، لابد أن أمي تنتظرك بفارغ الصبر، لم تغب عن بالها لحظة واحدة، كانت دوماً تحدثني عنك، حتى كدت أن تكون أسطورة.
- كم أنا مشتاق لعمتي الحبيبة.
- إذن هيا بنا.
******************
لقد كانت عمتي كما تركتها في زيارتي السابقة، امرأة متوسطة الطول نحيلة بعض الشيء وقد غزى الشيب شعرها، قابلتني بعناق حار، وهي تردد عبارات الترحيب، ثم أخذتني لغرفتي لأرتاح ، وقبل أن تغادر الغرفة قالت لي: أتمنى أن تستمتع بإجازتك هنا وتنسى كل مشاكلك.
- وهل ينسى المرء نفسه؟.
- إنها أمور تحدث بالحياة فلا تحملها فوق ما تستحق.
- لكن طفلي يستحق كل اهتمامي يا عمتي.
- مثل هذه الأمور تحدث في هذه الحياة .. ابنك سيكون على خير ما يرام بما أنكما متفاهمان بخصوصه.
- لا اعتقد أننا كذلك أبداً.
- جواد !، لم لا تعود إليها.
- ليس ذلك بيدي، أنا مستعد للتضحية بحياتي من أجل طفلي، أما هي .. لديها وجهت نظر أخرى فهي تعتقد بأنه سيعاني معنا كما أنها..
- ماذا؟!.
- لا شيء، لكن لا اعتقد أننا سنتفق.
- على كل حال لست أول ولا آخر شخص ينفصل عن زوجته وهو على وشك أن يرزق بطفل، لا تحمل الأمر فوق ما يستحق يا بني، والدك أيضاً انفصل عن زوجته قبل أن تخرج أنت إلى هذه الحياة وكما أرى فأنت على خير ما يرام ولم تتأثر بذلك.
نظرت إليها وهي تخرج من الغرفة، ليتها تعلم أن ذلك هو السبب الوحيد لمعاناتي ، لا أريد لابني أن يعاني مثلي، لا أريده أن يعيش بعيداً عن أحد أبويه ، لقد عانيتُ كثيراً بسبب بعدي عن أمي، لقد كانت عمتي لطيفة وقد ملأت الفراغ الذي خلّفه غياب أمي، لكن حين انتقلت للعيش مع أبي مررت بظروف قاهرة، لقد حاول أبي أن يعوضني عن أمي، لكن لا شيء يعوض عن حنان الأم ، مررت بلحظات كنت فيها بأمس الحاجة لأمي، لا أريد أن يحدث ذلك لطفلي القادم ، لكن .. ماذا بوسعي فعله ؟ ، رددت هذه الكلمات بينما غلبني النعاس ونمت نوماً طويلاً.