خطب ومحاضرات : محاضرات عامة
ليلة القدر.. ليلة خير من عمر طويل
موقع القرضاوي/ 4-10-2007
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن صام رمضان إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه"[1] ، و"مَن قام رمضان إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه"[2]، "ومَن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه"[3].
من خصائص رمضان:
مما اختصَّ الله به هذا الشهر الكريم، الذي افترض فيه الصيام، وسنَّ فيه القيام، وجعله موسما لتجارة الصالحين، موسما للمغفرة وتكفير السيئات، ومُغتسلا لتطهير القلوب من الأدران والغفلات، مما اختصَّ الله به هذا الشهر أن جعل فيه ليلة القدر ...
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:1- 3]، والقدر هو: الشرف ورفعة المقام، فهي ليلة ذات قدر، أُنزل فيها كتاب ذو قدر، على نبي ذو قدر.
ليلة القدر هي: الليلة التي أُنزل الله فيها خير كتاب أُنزل على خير نبي أُرسل، إلى خير أمة أُخرجت للناس.
ليلة القدر إذن هي ليلة القرآن، ليلة هذا الدستور السماوي العظيم، ليلة أُنزل فيها هذا القرآن، فضَّلها الله على سائر الليالي، بل جعلها خيرًا من ألف شهر ...
العمل الصالح فيها، الطاعة والعبادة والقيام، خير من العمل والطاعة في ألف شهر ... ليس فيها ليلة القدر ... وهي تساوي ثلاثا وثمانين سنة وأربعة أشهر ... إنها عمر طويل ...
ليلة خير من عمر طويل:
كم يتمنى الإنسان منا أن يُعَمَّر، وأن يمدَّ له في الأجل حتى يعيش ألف شهر يعمل فيها صالحًا ... يعيش بعد الصبا ثلاثا وثمانين سنة ... فإذا أضيفت إليها سنوات الصبا كانت نحو مائة سنة ... وهذا عمر طويل ...
ولكن هذا العمر الذي يتمنَّاه الإنسان ويودُّ لو يعيشه، ويدعو الله أن يتيحه له، وأن يعمره بالخير والعمل الصالح، مثل هذا العمر المتمنَّى ... آتاه الله لأتباع محمد صلى الله عليه وسلم، في ليلة واحدة ... طوي هذا العمر الطويل في تلك الليلة ... ليلة القدر.
والقدر هو: الشرف والمقام الجليل ... فهي ليلة ذات قدر، أُنزل فيها كتاب ذو قدر، على نبي ذو قدر، لأمة ذات قدر ...
وأي قدر أعظم أن يكون العمل في هذه الليلة خيرًا من العمل في ألف شهر؟! ليس فيها ليلة القدر.
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم، أُري أعمار الأمم قبل الأمة الإسلامية، فرأى أعمارهم تطول، ورأى هذه الأمة يعيش أبناؤها ما بين الستين والسبعين والثمانين، فعزَّ عليه تقاصر أعمار أمته، ألاَّ يبلغوا من العمل والصالحات ما بلغت الأمم الخالية ... فأعطاه الله هذه الليلة، تكرِمة لرسوله، وتكرِمة لهذه الأمة.
أعطاهم ليلة القدر هي خير من عمر طويل ... وتتكرَّر هذه الليلة كل عام في رمضان المبارك، أرأيتم مثل هذه المضاعفة؟! إنها ليست مضاعفة مائة في المائة ولا مائتين في المائة، ولا ألف في المائة ... بل ليلة واحدة خير من ثلاثين ألف ليلة مما سواها من الليالي.
الشقي المحروم
فيا خيبة مَن تمرُّ به هذه الليلة ولا ينتفع بها، ويا خيبة مَن لم يحرص عليها ولم يسعَ إليها!! ويا خيبة مَن قصَّر سعيه عن هذه الليلة وعن إدراكها!!
ليلة فيها مثل هذه المضاعفة، وفيها مثل هذا المثوبة العظيمة، ومع هذا يتغافل الناس عنها ولا يحرصون عليها، ولا يُعنون بها، أليس هذا من الخيبة، ومن الفشل، ومن الخذلان الذي يُصاب به الناس؟؟
ليلة مَن قامها وحدها غُفر له ما تقدَّم من ذنبه.
أي فضل أعظم من هذا الفضل؟! وأي قدر أرفع وأجلُّ من هذا القدر؟! ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، أنه: "من حُرم خيرها فقد حُرم".
وفي الحديث: "من حُرم خيرها فقد حُرم الخير كله، ولا يُحرم خيرها إلا محروم"[4]، وأي تعيس! وأي بائس الحظ! أبأس وأتعس ممَّن تمرُّ به هذه الليلة ويغفل عنها؟ ولا ينتفع بها، ولا يكتسب فضلها العظيم؟!
إن الله ينزل في هذه الليلة الرحمة والثواب الجزيل، وينزل فيها الملائكة... فتملأ فِجاج الأرض ... والملائكة مظهر الرحمة، ومظهر الرضوان، ومظهر البركة من الله عز وجل، فنزول الملائكة هي تنزُّل للرضا والرحمات، وللمثوبة...
ولهذا كان البيت المحروم من الخير، هو البيت الذي لا تدخله الملائكة، كالبيت الذي فيه كلب لغير حاجة، وكالبيت الذي فيه تماثيل[5].
هي ليلة سلام ... كلها سلام من أولها حتى يشرق فجرها: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:5].
هذه هي ليلة القدر، التي اختصَّ الله بها هذه الأمة، وفضَّلها بها على غيرها من الأمم، {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105].
يُفضِّل الله من الأيام ما شاء، ومن الليالي ما شاء، ومن الأماكن ما شاء، ومن الأشخاص ما شاء، فإن التفضيل والإيثار والاختيار والاختصاص من شأن الألوهية وحدها، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص:68]، اختار الله هذه الليلة ... ولكن الاختيار لحكمة بالغة لم يُعيِّنها الله لنا ...
أي ليلة هي؟
عيَّن لنا أنها في رمضان الذي أُنزل فيه القرآن، ولكن أي ليلة هي من رمضان؟ لقد قال قوم: إنها أول ليلة من رمضان. وذهب الحسن البصري وبعض الفقهاء والأئمة إلى أنها ليلة السابع عشر من رمضان ... ليلة غزوة بدر، التي أُنزل الله فيها الملائكة: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال:41]، وقالوا: إنها الليلة التي ابتدأ فيها نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم، وابتدأ فيها الوحي، وكان ذلك -كما جاء من الروايات- في ليلة السابع عشر من رمضان.
وذهب بعض الصحابة إلى أنها ليلة إحدى وعشرين، ذهب إلى ذلك أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهم: "أرأيتم ليلة القدر، ثم تلاحى فلان وفلان في المسجد فرفعت. أي إن اثنين من الصحابة تلاحما وتشاجرا، فكان من شؤم هذا الخصام وقع الخلاف، أن رفع الله علمها من قلبه، ولم تُعيَّن لهم بعد أن كانت معروفة ... وأراد أن يخبرهم بها ... فقال عليه الصلاة والسلام حينما أُنسيها: "لعل ذلك خير لكم". ثم قال له: "إني أُريت كأني أسجد ليلتها في ماء وطين". قال أبو سعيد الخدري، وقد سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم: إن السماء كانت صافية، فما هي إلا أن ظهرت قزعة، ومطرنا، فما كان إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم، في صبيحة هذه الليلة، ليلة الواحد والعشرين من رمضان، سجد، فرأى على جبهته الماء والطين[6].
ولهذا رجَّح أبو سعيد وظن أنها في هذه الليلة، أي أول ليلة من ليإلى العشر الأواخر من رمضان.
وذهب بعض الصحابة والتابعين إلى أنها ليلة السابع والعشرين من رمضان، وقد ذهب إلى ذلك أُبيُّ بن كعب، وكان يحلف على ما يقول، كما ذهب إليه عبد الله بن عباس[7].
سبب خفائها
والمهم أنها لم تتعيَّن ... وكأن الله تعالى أخفى ذلك لحكمة ... كما أخفى عنا الساعة التي يُجيب فيها الدعاء يوم الجمعة، والتي لا يُصادفها مسلم يدعو الله بخير إلا استجاب له[8] ... ولم تُعيَّن هذه الساعة، ليظلَّ قلب الإنسان معلقا بالله، ضارعا، داعيا طوال اليوم. وكذلك لم يُعيِّن الله ليلة القدر لأن الإنسان ينزع إلى الكسل ويميل إلى الراحة، فلو عرف ليلة القدر لكسل معظم الشهر وغفل، حتى إذا كانت هذه الليلة اجتهد وشمَّر عن ساعديه، وكشف عن ساقيه، وقام الليل ودعا، وعبد وتضرع. لكيلا يكون ذلك أخفى الله وغيَّب عنا بحكمته علم هذه الليلة وتعيينها.
ولكن الظن القوي أنها في العشر الأواخر من رمضان.
فقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالتماسها في العشر الأواخر، وفي الأوتار خاصة، وهي الليإلى الفردية ... ولا يُطلب منا التماسها في العشر الأواخر، إلا إذا كان الراجح أن تكون في هذه الليالي ...
كيف نقيم ليلة القدر؟
وإذا كان بعض البلاد يصوم متأخرا عن بلد آخر يوما، فمعنى هذا أن كل ليلة تصلح لأن تكون فرديَّة وأن تكون زوجيَّة، ومن هنا على الإنسان أن يلتمسها في سائر الليالي العشر الأواخر ... ولا يكسل في ليلة من الليالي ... عليه أن يقوم ويُحسن القيام ... قيام الخشوع، وقيام الاطمئنان، لا نقر الغراب ولا نقر الديكة، {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1، 2].
عليه أن يتلو القرآن، فإن للمسلم في كل حرف يتلوه عشر حسنات، كما جاء في الحديث: "لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف"[9].
عليه أن يدعو ويتضرَّع، فإن الدعاء مُخ العبادة ... بل الدعاء هو العبادة.
وقد سألت النبيَ صلى الله عليه وسلم، السيدة عائشة: أرأيت إن علمتُ أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟ فقال: "قولي: اللهم إنك عفو كريم تُحبُّ العفو فاعفُ عني"[10]. والأدعية كثيرة في القرآن وفي السنة.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]،
"اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة"[11] ... إلى غير ذلك مما ورد من أدعية كثيرة في القرآن، وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وخير الدعاء المأثور، فإن فيه أجرين أجر الدعاء، وأجر اتِّباع السنة، واتِّباع هدي الرسول صلى الله عليه وسلم.
النبي في العشر الأواخر
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حضر العشر الأواخر: شدَّ مِئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله[12].
أحيا ليله كله بالطاعة والعبادة والقيام والقراءة والدعاء. وأيقظ أهله، وأهاب بنسائه ليأخذنَّ حظَّهنَّ من العبادة ومن الطاعة. وكان يعتكف في هذه العشر، في المسجد، ليظلَّ ليله ونهاره لله عز وجل، مُستغرقا في العبادة، مُتلذِّذا بمناجاة ربه، فإن للعبادة عند العارفين رُوحًا ورَوحًا وريحانا وقرة عين، كما قال صلى الله عليه وسلم: "وجُعلت قرة عينى في الصلاة"[13]، وكما قال: "إن أبيت يطعمني ربي ويسقيني"[14].
إن ليلة القدر مُنتشرة في رمضان، وهي أرجى ما تكون في العشر الأواخر، فاحرصوا عليها والتمسوها واطلبوها.
أيها المسلمون: لنلتمس ليلة القدر، ولنجتهد في العبادة أكثر مما كنا عليه، ولنحرص على الخير وعلى طاعة الله أكثر مما كنا نحرص، ولنُحسِّن قيامنا وركوعنا وسجودنا أكثر مما كنا نُحسِّن، ولنتضرَّع إلى الله بقلوبنا، ولنُقبل عليه بكليتنا، واقفين على بابه، مُتذلِّلين على أعتابه، مُتضرِّعين إليه، باسطين أكفَّنا إليه بالسؤال، داعين خاشعين: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23][15].
اقرأ أيضاً:
فضل ليلة القدر
ليلة القدر .. من برنامج الشريعة والحياة
فضل العشر الأواخر من رمضان .. من برنامج الشريعة والحياة
هل يجوز ثواب ليلة القدر من لم ير طاقة النور؟
--------------------------------------------------------------------------------
[1]- سبق تخريجه.
[2]- سبق تخريجه.
[3]- سبق تخريجه.
[4]- سبق تخريجه.
[5]- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة تماثيل"، متفق عليه: رواه البخاري في بدء الخلق (3225)، ومسلم في اللباس والزينة (2106)، وأحمد في المسند (16346)، والترمذي في الأدب (2804)، والنسائي في الزينة (5347)، وابن ماجه في اللباس (3649)، عن أبي طلحة.
[6]- متفق عليه: رواه البخاري في فضل ليلة القدر (2016)، ومسلم في فضل ليلة القدر (1167)، وأحمد في المسند (11034)، وأبو داود في الصلاة (894)، والنسائي في السهو (1356)، وابن ماجه في الصيام (1766)، عن أبي سعيد الخدري.
[7]- راجع هذه الأقوال في كتابنا: (فقه الصيام) صـ115 وما بعدها، وفتح الباري (4/256) وما بعدها.
[8]- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم قائم يصلي يسأل الله خيرا إلا أعطاه"، وقال بيده ووضع أنملته على بطن الوسطى والخنصر قلنا يزهدها. متفق عليه: رواه البخاري في الطلاق (5294)، ومسلم في الجمعة (852)، وأحمد في المسند (7151)، والنسائي في الجمعة (1431)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها (1137)، عن أبي هريرة.
[9]- رواه الترمذي في فضائل القرآن (2910)، وقال: حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وعبد الرزاق في المصنف كتاب فضائل القرآن (3/375)، والطبراني في الكبير (9/130)، والبيهقي في الشعب باب في تعظيم القرآن (2/324)، عن ابن مسعود، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6469).
[10]- رواه أحمد في المسند (25384)، وقال محققوه: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين، والترمذي في الدعوات (3513)، وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه في الدعاء (3850)، عن عائشة، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2789).
[11]- رواه أحمد في المسند (4785)، وقال محققوه: إسناده صحيح رجاله ثقات، وأبو داود في الأدب (5074)، وابن ماجه في الدعاء (3871)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (3121).
[12]- متفق عليه: رواه البخاري في فضل ليلة القدر (2024)، ومسلم في الاعتكاف (1174)، وأحمد في المسند (24131)، وأبو داود في الصلاة (1376)، والنسائي في قيام الليل وتطوع النهار (1639)، وابن ماجه في الصيام (1768)، عن عائشة.
[13]- رواه أحمد في المسند (12293)، وقال محققوه: إسناده حسن، والنسائي في عشرة النساء (3939)، وأبو يعلى في المسند (6/199)، والطبراني في الصغير (2/39)، وفي الأوسط (5/241)، والحاكم في المستدرك كتاب النكاح (2/174)، وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، والبيهقي في الكبرى كتاب النكاح (7/78)، وقال العراقي في تخريج الإحياء: رواه النسائي والحاكم من حديث أنس بإسناد جيد وضعفه العقيلي (2/32)، وصحح الألباني في صحيح الجامع (3124).
[14]- متفق عليه: رواه البخاري في الصوم (1964) ومسلم في الصيام (1105)، وأحمد في المسند (26211)، عائشة.
[15]- راجع ما ذكرناه في كتابنا: (فقه الصيام) صـ129- 134.
منقول
جنين القسام
ليلة القدر.. ليلة خير من عمر طويل
موقع القرضاوي/ 4-10-2007
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن صام رمضان إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه"[1] ، و"مَن قام رمضان إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه"[2]، "ومَن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه"[3].
من خصائص رمضان:
مما اختصَّ الله به هذا الشهر الكريم، الذي افترض فيه الصيام، وسنَّ فيه القيام، وجعله موسما لتجارة الصالحين، موسما للمغفرة وتكفير السيئات، ومُغتسلا لتطهير القلوب من الأدران والغفلات، مما اختصَّ الله به هذا الشهر أن جعل فيه ليلة القدر ...
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:1- 3]، والقدر هو: الشرف ورفعة المقام، فهي ليلة ذات قدر، أُنزل فيها كتاب ذو قدر، على نبي ذو قدر.
ليلة القدر هي: الليلة التي أُنزل الله فيها خير كتاب أُنزل على خير نبي أُرسل، إلى خير أمة أُخرجت للناس.
ليلة القدر إذن هي ليلة القرآن، ليلة هذا الدستور السماوي العظيم، ليلة أُنزل فيها هذا القرآن، فضَّلها الله على سائر الليالي، بل جعلها خيرًا من ألف شهر ...
العمل الصالح فيها، الطاعة والعبادة والقيام، خير من العمل والطاعة في ألف شهر ... ليس فيها ليلة القدر ... وهي تساوي ثلاثا وثمانين سنة وأربعة أشهر ... إنها عمر طويل ...
ليلة خير من عمر طويل:
كم يتمنى الإنسان منا أن يُعَمَّر، وأن يمدَّ له في الأجل حتى يعيش ألف شهر يعمل فيها صالحًا ... يعيش بعد الصبا ثلاثا وثمانين سنة ... فإذا أضيفت إليها سنوات الصبا كانت نحو مائة سنة ... وهذا عمر طويل ...
ولكن هذا العمر الذي يتمنَّاه الإنسان ويودُّ لو يعيشه، ويدعو الله أن يتيحه له، وأن يعمره بالخير والعمل الصالح، مثل هذا العمر المتمنَّى ... آتاه الله لأتباع محمد صلى الله عليه وسلم، في ليلة واحدة ... طوي هذا العمر الطويل في تلك الليلة ... ليلة القدر.
والقدر هو: الشرف والمقام الجليل ... فهي ليلة ذات قدر، أُنزل فيها كتاب ذو قدر، على نبي ذو قدر، لأمة ذات قدر ...
وأي قدر أعظم أن يكون العمل في هذه الليلة خيرًا من العمل في ألف شهر؟! ليس فيها ليلة القدر.
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم، أُري أعمار الأمم قبل الأمة الإسلامية، فرأى أعمارهم تطول، ورأى هذه الأمة يعيش أبناؤها ما بين الستين والسبعين والثمانين، فعزَّ عليه تقاصر أعمار أمته، ألاَّ يبلغوا من العمل والصالحات ما بلغت الأمم الخالية ... فأعطاه الله هذه الليلة، تكرِمة لرسوله، وتكرِمة لهذه الأمة.
أعطاهم ليلة القدر هي خير من عمر طويل ... وتتكرَّر هذه الليلة كل عام في رمضان المبارك، أرأيتم مثل هذه المضاعفة؟! إنها ليست مضاعفة مائة في المائة ولا مائتين في المائة، ولا ألف في المائة ... بل ليلة واحدة خير من ثلاثين ألف ليلة مما سواها من الليالي.
الشقي المحروم
فيا خيبة مَن تمرُّ به هذه الليلة ولا ينتفع بها، ويا خيبة مَن لم يحرص عليها ولم يسعَ إليها!! ويا خيبة مَن قصَّر سعيه عن هذه الليلة وعن إدراكها!!
ليلة فيها مثل هذه المضاعفة، وفيها مثل هذا المثوبة العظيمة، ومع هذا يتغافل الناس عنها ولا يحرصون عليها، ولا يُعنون بها، أليس هذا من الخيبة، ومن الفشل، ومن الخذلان الذي يُصاب به الناس؟؟
ليلة مَن قامها وحدها غُفر له ما تقدَّم من ذنبه.
أي فضل أعظم من هذا الفضل؟! وأي قدر أرفع وأجلُّ من هذا القدر؟! ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، أنه: "من حُرم خيرها فقد حُرم".
وفي الحديث: "من حُرم خيرها فقد حُرم الخير كله، ولا يُحرم خيرها إلا محروم"[4]، وأي تعيس! وأي بائس الحظ! أبأس وأتعس ممَّن تمرُّ به هذه الليلة ويغفل عنها؟ ولا ينتفع بها، ولا يكتسب فضلها العظيم؟!
إن الله ينزل في هذه الليلة الرحمة والثواب الجزيل، وينزل فيها الملائكة... فتملأ فِجاج الأرض ... والملائكة مظهر الرحمة، ومظهر الرضوان، ومظهر البركة من الله عز وجل، فنزول الملائكة هي تنزُّل للرضا والرحمات، وللمثوبة...
ولهذا كان البيت المحروم من الخير، هو البيت الذي لا تدخله الملائكة، كالبيت الذي فيه كلب لغير حاجة، وكالبيت الذي فيه تماثيل[5].
هي ليلة سلام ... كلها سلام من أولها حتى يشرق فجرها: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:5].
هذه هي ليلة القدر، التي اختصَّ الله بها هذه الأمة، وفضَّلها بها على غيرها من الأمم، {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105].
يُفضِّل الله من الأيام ما شاء، ومن الليالي ما شاء، ومن الأماكن ما شاء، ومن الأشخاص ما شاء، فإن التفضيل والإيثار والاختيار والاختصاص من شأن الألوهية وحدها، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص:68]، اختار الله هذه الليلة ... ولكن الاختيار لحكمة بالغة لم يُعيِّنها الله لنا ...
أي ليلة هي؟
عيَّن لنا أنها في رمضان الذي أُنزل فيه القرآن، ولكن أي ليلة هي من رمضان؟ لقد قال قوم: إنها أول ليلة من رمضان. وذهب الحسن البصري وبعض الفقهاء والأئمة إلى أنها ليلة السابع عشر من رمضان ... ليلة غزوة بدر، التي أُنزل الله فيها الملائكة: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال:41]، وقالوا: إنها الليلة التي ابتدأ فيها نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم، وابتدأ فيها الوحي، وكان ذلك -كما جاء من الروايات- في ليلة السابع عشر من رمضان.
وذهب بعض الصحابة إلى أنها ليلة إحدى وعشرين، ذهب إلى ذلك أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهم: "أرأيتم ليلة القدر، ثم تلاحى فلان وفلان في المسجد فرفعت. أي إن اثنين من الصحابة تلاحما وتشاجرا، فكان من شؤم هذا الخصام وقع الخلاف، أن رفع الله علمها من قلبه، ولم تُعيَّن لهم بعد أن كانت معروفة ... وأراد أن يخبرهم بها ... فقال عليه الصلاة والسلام حينما أُنسيها: "لعل ذلك خير لكم". ثم قال له: "إني أُريت كأني أسجد ليلتها في ماء وطين". قال أبو سعيد الخدري، وقد سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم: إن السماء كانت صافية، فما هي إلا أن ظهرت قزعة، ومطرنا، فما كان إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم، في صبيحة هذه الليلة، ليلة الواحد والعشرين من رمضان، سجد، فرأى على جبهته الماء والطين[6].
ولهذا رجَّح أبو سعيد وظن أنها في هذه الليلة، أي أول ليلة من ليإلى العشر الأواخر من رمضان.
وذهب بعض الصحابة والتابعين إلى أنها ليلة السابع والعشرين من رمضان، وقد ذهب إلى ذلك أُبيُّ بن كعب، وكان يحلف على ما يقول، كما ذهب إليه عبد الله بن عباس[7].
سبب خفائها
والمهم أنها لم تتعيَّن ... وكأن الله تعالى أخفى ذلك لحكمة ... كما أخفى عنا الساعة التي يُجيب فيها الدعاء يوم الجمعة، والتي لا يُصادفها مسلم يدعو الله بخير إلا استجاب له[8] ... ولم تُعيَّن هذه الساعة، ليظلَّ قلب الإنسان معلقا بالله، ضارعا، داعيا طوال اليوم. وكذلك لم يُعيِّن الله ليلة القدر لأن الإنسان ينزع إلى الكسل ويميل إلى الراحة، فلو عرف ليلة القدر لكسل معظم الشهر وغفل، حتى إذا كانت هذه الليلة اجتهد وشمَّر عن ساعديه، وكشف عن ساقيه، وقام الليل ودعا، وعبد وتضرع. لكيلا يكون ذلك أخفى الله وغيَّب عنا بحكمته علم هذه الليلة وتعيينها.
ولكن الظن القوي أنها في العشر الأواخر من رمضان.
فقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالتماسها في العشر الأواخر، وفي الأوتار خاصة، وهي الليإلى الفردية ... ولا يُطلب منا التماسها في العشر الأواخر، إلا إذا كان الراجح أن تكون في هذه الليالي ...
كيف نقيم ليلة القدر؟
وإذا كان بعض البلاد يصوم متأخرا عن بلد آخر يوما، فمعنى هذا أن كل ليلة تصلح لأن تكون فرديَّة وأن تكون زوجيَّة، ومن هنا على الإنسان أن يلتمسها في سائر الليالي العشر الأواخر ... ولا يكسل في ليلة من الليالي ... عليه أن يقوم ويُحسن القيام ... قيام الخشوع، وقيام الاطمئنان، لا نقر الغراب ولا نقر الديكة، {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1، 2].
عليه أن يتلو القرآن، فإن للمسلم في كل حرف يتلوه عشر حسنات، كما جاء في الحديث: "لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف"[9].
عليه أن يدعو ويتضرَّع، فإن الدعاء مُخ العبادة ... بل الدعاء هو العبادة.
وقد سألت النبيَ صلى الله عليه وسلم، السيدة عائشة: أرأيت إن علمتُ أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟ فقال: "قولي: اللهم إنك عفو كريم تُحبُّ العفو فاعفُ عني"[10]. والأدعية كثيرة في القرآن وفي السنة.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]،
"اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة"[11] ... إلى غير ذلك مما ورد من أدعية كثيرة في القرآن، وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وخير الدعاء المأثور، فإن فيه أجرين أجر الدعاء، وأجر اتِّباع السنة، واتِّباع هدي الرسول صلى الله عليه وسلم.
النبي في العشر الأواخر
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حضر العشر الأواخر: شدَّ مِئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله[12].
أحيا ليله كله بالطاعة والعبادة والقيام والقراءة والدعاء. وأيقظ أهله، وأهاب بنسائه ليأخذنَّ حظَّهنَّ من العبادة ومن الطاعة. وكان يعتكف في هذه العشر، في المسجد، ليظلَّ ليله ونهاره لله عز وجل، مُستغرقا في العبادة، مُتلذِّذا بمناجاة ربه، فإن للعبادة عند العارفين رُوحًا ورَوحًا وريحانا وقرة عين، كما قال صلى الله عليه وسلم: "وجُعلت قرة عينى في الصلاة"[13]، وكما قال: "إن أبيت يطعمني ربي ويسقيني"[14].
إن ليلة القدر مُنتشرة في رمضان، وهي أرجى ما تكون في العشر الأواخر، فاحرصوا عليها والتمسوها واطلبوها.
أيها المسلمون: لنلتمس ليلة القدر، ولنجتهد في العبادة أكثر مما كنا عليه، ولنحرص على الخير وعلى طاعة الله أكثر مما كنا نحرص، ولنُحسِّن قيامنا وركوعنا وسجودنا أكثر مما كنا نُحسِّن، ولنتضرَّع إلى الله بقلوبنا، ولنُقبل عليه بكليتنا، واقفين على بابه، مُتذلِّلين على أعتابه، مُتضرِّعين إليه، باسطين أكفَّنا إليه بالسؤال، داعين خاشعين: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23][15].
اقرأ أيضاً:
فضل ليلة القدر
ليلة القدر .. من برنامج الشريعة والحياة
فضل العشر الأواخر من رمضان .. من برنامج الشريعة والحياة
هل يجوز ثواب ليلة القدر من لم ير طاقة النور؟
--------------------------------------------------------------------------------
[1]- سبق تخريجه.
[2]- سبق تخريجه.
[3]- سبق تخريجه.
[4]- سبق تخريجه.
[5]- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة تماثيل"، متفق عليه: رواه البخاري في بدء الخلق (3225)، ومسلم في اللباس والزينة (2106)، وأحمد في المسند (16346)، والترمذي في الأدب (2804)، والنسائي في الزينة (5347)، وابن ماجه في اللباس (3649)، عن أبي طلحة.
[6]- متفق عليه: رواه البخاري في فضل ليلة القدر (2016)، ومسلم في فضل ليلة القدر (1167)، وأحمد في المسند (11034)، وأبو داود في الصلاة (894)، والنسائي في السهو (1356)، وابن ماجه في الصيام (1766)، عن أبي سعيد الخدري.
[7]- راجع هذه الأقوال في كتابنا: (فقه الصيام) صـ115 وما بعدها، وفتح الباري (4/256) وما بعدها.
[8]- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم قائم يصلي يسأل الله خيرا إلا أعطاه"، وقال بيده ووضع أنملته على بطن الوسطى والخنصر قلنا يزهدها. متفق عليه: رواه البخاري في الطلاق (5294)، ومسلم في الجمعة (852)، وأحمد في المسند (7151)، والنسائي في الجمعة (1431)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها (1137)، عن أبي هريرة.
[9]- رواه الترمذي في فضائل القرآن (2910)، وقال: حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وعبد الرزاق في المصنف كتاب فضائل القرآن (3/375)، والطبراني في الكبير (9/130)، والبيهقي في الشعب باب في تعظيم القرآن (2/324)، عن ابن مسعود، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6469).
[10]- رواه أحمد في المسند (25384)، وقال محققوه: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين، والترمذي في الدعوات (3513)، وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه في الدعاء (3850)، عن عائشة، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2789).
[11]- رواه أحمد في المسند (4785)، وقال محققوه: إسناده صحيح رجاله ثقات، وأبو داود في الأدب (5074)، وابن ماجه في الدعاء (3871)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (3121).
[12]- متفق عليه: رواه البخاري في فضل ليلة القدر (2024)، ومسلم في الاعتكاف (1174)، وأحمد في المسند (24131)، وأبو داود في الصلاة (1376)، والنسائي في قيام الليل وتطوع النهار (1639)، وابن ماجه في الصيام (1768)، عن عائشة.
[13]- رواه أحمد في المسند (12293)، وقال محققوه: إسناده حسن، والنسائي في عشرة النساء (3939)، وأبو يعلى في المسند (6/199)، والطبراني في الصغير (2/39)، وفي الأوسط (5/241)، والحاكم في المستدرك كتاب النكاح (2/174)، وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، والبيهقي في الكبرى كتاب النكاح (7/78)، وقال العراقي في تخريج الإحياء: رواه النسائي والحاكم من حديث أنس بإسناد جيد وضعفه العقيلي (2/32)، وصحح الألباني في صحيح الجامع (3124).
[14]- متفق عليه: رواه البخاري في الصوم (1964) ومسلم في الصيام (1105)، وأحمد في المسند (26211)، عائشة.
[15]- راجع ما ذكرناه في كتابنا: (فقه الصيام) صـ129- 134.
منقول
جنين القسام
تعليق